لعل أول ما نتبينه في رواية سهير المصادفة” لعنة ميت رهينة” أن الخير قد يحيط بمن لا يجنون ثماره. هذا هو حال المصريين في وطنهم. ثمة المقومات والإمكانات التي يقتصر جدواها على القلة من الأفراد الذين يثرون على حساب الجماعة.
ميت رهينة – في رؤية المصادفة – تعانى، ذلك ما نتبينه في الصفحات الأولي من رواية سهير المصادفة” لعنة ميت رهينة”.
ميت رهينة هي العاصمة الأولى في التاريخ المصري. ثمة أشجار البانسيانا بورودها الحمراء المتوهجة، والنسيم العليل، والنخيل العالي، وأبراج الحمام، والمآذن، والقباب.
ثمة – في المقابل – حصار الإهمال للقرية المنغلقة على نفسها، والفجل، ورغيف الخبز المغموس في المش، ودوران الدوامات الترابية المحملة بالقمامة في فضائها، والكلاب الضالة، وكومات القمامة التي تحولت إلى جزء من الصورة الكلية.
تعرفنا إلى زمن رواية نجيب محفوظ” بداية ونهاية” من مشاركة الشقيقين حسين وحسنين في المظاهرات الهاتفة: يسقط هور ابن الطور. نحن إذن فى أوائل الثلاثينيات، وتعرفنا إلى زمن ميت رهينة – الحدث الآنى، وليس التاريخ! – من الإشارة إلى الحزب الوطني الجديد، فنحن في زمن السادات، وهو الزمن الذي توالت فيه موجات الانفتاح بما حملته من تأثيرات اقتصادية ومجتمعية مدمرة.
ما تعانيه القرية من مشكلات الأرض الزراعية، والظروف الصعبة، وهم الوجبة التالية، شحب في هوس التنقيب عن الآثار، جعل الماضي القديم ولائم يقتات منها الحاضر، يبني عليها مستقبلًا يأمله، ويسعي إليه.
واللافت أن ذلك الهوس تماهى مع انزلاق القرية في منحدر الأوضاع القاسية، صنعها التكالب والأطماع التي تلغي الآخرين لحساب الذات.
توالي الأحداث وتصرفات الشخصيات – في حكى بسيط وسلس – يحفز على المتابعة، واستكمال القراءة، ما قبل يصل ما بعد، لا عودة إلى صفحات سابقة، أو بحث عن معان مضمرة، وإن لامس تيار الوعى بعض المواقف من خلال مخاطبة المرء نفسه، في مواجهة ما يحتاج إلى التدبر.
الشخصية الأهم في الرواية هي ميت رهينة، وإن حفلت بالشخصيات التي تسهم – بأدوار متعددة – في صنع المشهد: القاضي والعمدة وعبد الجبار أيوب وأدهم الشواف وعم إسماعيل وعم لطفي مرجيحة وهاجر وعوض وليلى والمهندس عمار المصرى وغيرهم.
وإذا كان مما يعيب الروايات التي تتمحور أحداثها حول شخصيات رئيسة، أنها تهمل الشخصيات الثانوية، أو الهامشية، فإن رواية سهير المصادفة أجادت تقديم تلك الشخصيات، ربما بأسطر قليلة تبين عن الملامح الجوانية لكل شخصية.
تغيظني الكتابات التي تلغي الفن لحساب الدلالة، فهي تحاول تطويع إبداعها بما يخدم قضية ما، أو يعكس أيديولوجية محددة.
المثل في كتابات ما بعد إبداعات روسيا القيصرية، لم يتخلص من تأثيراتها السلبية – بحكم الخضوع لقيادة الحزب – إلا من انحاز للفن على حساب الشعارات والأيديولوجيات المذهبية.
ذلك ما يطالعنا في إبداعات باسترناك وسولجنستين ويفتشينكو وغيرهم ممن عبرت إبداعاتهم عن الواقع المعيش، في إطار من الفنية العالية.
هذه رواية تهب المتعة وتثير الوعي في الوقت نفسه. أنت تفرغ من قراءتها، لكنها تظل تناوشك – أحدثك عن نفسي! – تدعوك إلى مراجعة المشكلات بتفصيلاتها، من خلال الوعي بالظروف المحيطة، والتحفيز لمحاولة التبديل.