إذا كانت سلسلة الجوائز التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، قد أتاحت للقارئ العربي أن يتعرف إلى إبداعات أدباء من مناطق العالم، فإن هذه الثلاثية الروائية للكاتب الجابوني جان ديفاسا نياما تهبنا مشهدًا بانوراميًا للتراث، وللموروث من القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد وسلوكيات الحياة اليومية.
ما نعرفه عن جان ديفاسا نياما أنه ولد سنة 1962 في قرية صغيرة، بالقرب من مدينة “موابي ” الجابونية. وهو أحد أبناء قبائل البانتو، التي تعتنق ديانة ” البويتي ” المنتشرة في غرب وسط إفريقيا، وتمثل أحد دياناتها الرسمية الثلاثة. والبويتي – فى تعريف مراجع الرواية ومقدمها الشاعر الكبير الراحل رفعت سلام – نوع من الديانات التى تؤمن بوجود الأرواح، ليس في البشر وحدهم، وإنما فى الحيوان والنبات وظواهر الطبيعة، وتدمج قبائل البانتو ديانة البويتي في عبادة الأسلاف والمسيحية في آن، ويقود الطقوس زعيم روحي، رجل أو امرأة، يسمى النجانجا، ويمتلك معرفة عميقة بالشعائر والممارسات العلاجية التراثية والرقى والتمائم والتعاويذ.
أصدر نياما ثلاثيته الروائية ” الكالباس “، أو رحلة العم ما، على نفقته الخاصة [ وهو ما يفعله الكثير من مبدعينا ]، واستطاع بها أن يحقق مكانة متفوقة، رشحتها للترجمة، ولشهرة كاتبها على المستوى العالمي. وقد احتلت – لسنوات – قائمة أفضل الكتب رواجًا، بحق وحقيق، وليس بالاختراع الساذج الذي تقدم عليه بعض دور النشر الخاصة عندنا، فهي تدعى نفاد النسخ من طبعات لا تزيد الطبعة الواحدة منها عن مائة، ولعلنا نكتفى بالسؤال: أين مخازن مطبوعات تلك الدور؟!
هذه – كما يقول مراجع ترجمة الأجزاء الثلاثة من الرواية، ومقدمها، رفعت سلام – أول ترجمة للرواية من أصلها الفرنسي إلى لغات العالم. ترجم الجزء الأول ” رحلة العم ما” عاطف محمد عبد الحميد، وترجم الجزء الثانى ” نداء دينيتي ” الدكتورة نسرين شكرى، أما الجزء الثالث ” صخب الميراث ” فقد ترجمته إيمان رباح.
السؤال الذى تطرحه الرواية هو الذاكرة المهددة بالتلاشي، والتراث المهدد بالاندثار، والأسلاف الذين يهددون بإثارة الصخب للسلالة، عقابًا على النكران، وتركهم في العراء بعد الهجرة من القرية الأصلية، وهو ما لا يستطيع العم ما – رغم ما يمتلكه من خبرات وتجارب لا حصر لها – أن يواجهه، أو يعثر له على حل حاسم. إنها حيرة مماثلة لحيرة أبناء السلالة الآخرين في انشغالهم بسؤال المصير، دون إجابة محددة.
القرية – كما نلحظ بالفعل – مفعمة بالأساطير والسحر، وما يتصل بهما من ممارسات. معظم الآراء والتصرفات تخضع لأحكام الآلهة الروحانيين، وليس لشرائع الدين.
وحتى تكتمل بانورامية المشهد، فثمة الغابة الشاسعة التي تفرش غطاءها النباتي الرائع على مدى الأفق، وثمة العرف القبلي المحكوم بقوانين ومبادئ، وإن أساء البعض استخدامها للتحكم في من يرعون أمورهم، المرأة لا تستحق تسميتها ما لم تجيد الزراعة أو الطهي، والمرأة التي تنتظر مولودًا جديدًا، عليها أن تحذر من فترات الهلال والبدر، ففي هذين الوقتين يمكن أن تمسي المرأة فريسة للسحرة، ويرتد الكثيرون – بتأثير قسوة الفقر – عن ديانتهم السماوية إلى دياناتهم القديمة، وثمة أشجار الغابة التي تبدو – من بعيد – كأشخاص يضعون أقنعة، والأغنيات الإباحية والاستفزازية لاستثارة الغضب الذكورى. ولأن الرجل لا يمتلك ساعة، فهو يقرأ الساعة بالنظر إلى ظلّه، فيعرف ما إذا كان عليه التوقف للذهاب، وصنع عرقه. ونحن نجد فى الرقصات مغايرة لرقصاتنا الشعبية والدينية، رغم انتمائنا إلى القارة نفسها، فهم يغنون ويرقصون، على إيقاع الطنطن، ينفصل الراقص عن زملائه، يدخل وسط الحلقة، جسده كله في حالة تناغم، وملبسه مصنوع من سعف نخيل، بسيط، مربوط حول خصره، ويراعى الخطوة والإيماءة والحركة الحادة، وعين قارع الطبول تتبعه عن كثب، فيما أصابعه وعقباه تجاهد ليرد عليه بإيقاع التام، ويتغير الإيقاع، وتتغير الرقصة، فالراقص هو الذي يوجه الموسيقيين والمغنين، ثم ينطلق كل شيء من جديد، حين يعود الراقص إلى مكانه ، ويحل مكانه راقص جديد. ويقول ديمونج في “صخب الميراث “، ثالث أجزاء الرواية: هل راقبت النساء عندما يهرسن جوز النخيل؟ نحن – الرجال – محور أحاديثهن، يضربن بأيديهن لطرد الأولاد الصغار كي لا يفشوا أسرارهن، يكشفن لبعضهن عما إذا كان أزواجهن قد قاموا بمهمتهم جيدًا الليلة الماضية، رغم المقاومة التى أبدينها، إذ يقلن إنهن لا يرغبن في القيام بذلك مرة أخرى، وإنهن يحملن بعدد كبير من الأطفال في بطونهن، إلخ. وحين تسير المرأة في شوارع القرية، فإنها تضع أشياءها فوق رأسها، وتمضي بخطواتها إلى الأمام، ولا تتحدث عن الأرواح الشريرة، والأرواح – كما نعرف – ليست حرة، إنها خاضعة لأوامر سيدها، هو الذي يقرر ويأمر، وعليها أن تنفذ ما يطلبه، وإذا كانت جرائم القتل كلها مدانة، فإن جريمة قتل المرأة أبشعها، لأن المجرم فى هذه الحالة قد قتل بطنًا، ألغى بطنًا، بمعنى أن القاتل بتر أحد فروع السلالة، والموت. وهو ما يستدعي التأمل: لا يخضع لإرادة الإلهة فحسب، وإنما هو مبرمج بواسطة سحرة يختبئون في القمر والنجوم والشمس، ويتجولون – كل ليلة – من بلد إلى آخر لحضور لقاءات روحية، لكن الموت – في يقين العم ما – ضروري، فهو الذي يضمن تجديد الأجيال. مع ذلك، فإن الناس يرفضون الموت، إنهم لا يموتون، لكنهم يظهرون في أشكال مختلفة لمخاطبة مجتمع الأحياء. أليس الموت شيئًا من الخرافة، إيمانًا غير منطقي بفأل خير أو شر، يسند لأحداث معينة؟
في رأي المداوي ( صخب الميراث ) أن الجسد محفوظ بالروح، غياب الروح، أو فقدها، يدمر الإنسان، الروح مصدر أية حياة، بدونها يصبح كل شيء في الإنسان بلا منطق. ولعلنا نلحظ أنه حتى الأمثال صادرة عن بيئة الغابة كالقول: ” القرد الذى لديه ذيل لا يقفز فوق النار “.
هناك فى خلفية المشهد قسمات مهمة، تتمثل فى التطورات السياسية التى واجهتها دول القارة الإفريقية بعامة، وقرى الجابون بخاصة، الصراع الذي ظل قائمًا بين المستعمر الأبيض وأصحاب الأرض من الأفارقة.
ظني أن الروايات الثلاث، أو الأجزاء الثلاثة من رواية جان ديفاسا نياما قد خلت – أو كادت – من الأخطاء اللغوية للمراجعة الدقيقة والمسئولة لرفعت سلام، فهو لم يكتف – كما ألف الكثير من المتصدين لمراجعة الأعمال الأدبية وتقديمها – بقراءة الجشتالت، وكتابة العبارات المطلقة التي قد لا تحسن التعبير.. لكنه أحسن قراءة النص الفرنسي , والترجمة العربية، واختار المفردة الأشد تعبيرًا عن المعنى، دون أن تفقد لغتنا الجميلة خصائصها.
لعل الانطباع الأهم الذى نغادر به هذه الثلاثية الروائية، أن الفنان قدم لنا عالمًا مغايرًا، يختلف حتى عن الأعمال التي حاولت التقليب في الموروث الشعبي العالمى، وتقديمه من خلال إبداعات مضفرة بالواقعية السحرية، أو الغرائبية، أو العجائبية، وغيرها من المسميات.
أعاد نياما اكتشاف مجتمعه بعين تجيد الرصد والالتقاط والتسجيل ، وقدرة مذهلة على الحكي الذي يصنع فسيفساء تضم ما لا حصر له من الأزمنة والأحداث والشخصيات والمعتقدات والكوابيس والأحلام والذكريات وتفاعل الفنون.