مع تناهي نسائم رمضان، أستعيد أيام الطفولة في بحري.
حي بحري هو هذه المنطقة التي تمثل شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية.لا يزيد – طولًا أو عرضًا – عن كيلو متر واحد. مظهره الأهم غلبة الروحانية. ثمة الجوامع والمساجد والزوايا والصوفية وحلقات الذكر والموالد وغيرها مما يسم الحياة في بحري باختلاف مؤكد، ليس عن بقية أحياء الإسكندرية فحسب، وإنما عن بقية المناطق المصرية جميعًا.
شهر رمضان – بالطبع – جزء من تلك الروحانية التى تدين لها طفولتي – ومحاولاتى الإبداعية فيما بعد – بالكثير. الصيام، صلاة التراويح، تلاوة القرآن، المسحراتي، الكنافة، القطايف، حالو يا حالو، الياميش، الأضواء، الفوانيس، الليل الصاحي، النهار المتثائب، السبح، الأعصاب المنفلتة، واللهم إني صايم، الطرشي، الفول المدمس، اللب، الفول السوداني، التسالي، الإذن للأطفال بالسهر مدى شهر كامل، تقييد الشياطين والجان، واختفاء العفاريت.
كنا نسهر إلي موعد السحور. نحمل في أيدينا – عقب الإفطار- ” فوانيس “زجاجها ملون، مصنوعة من الصفيح، وتضيء بالشمع. أفضل من فوانيس هذه الأيام التى تضيء بالبطارية!- دعك من وفرة الأمان في الفوانيس الحالية- ارتعاشة الشمعة قد تحمل الخطر، لكنها تحمل الحميمية في الوقت نفسه.
نقف أمام دكاكين الحي، نلوح بالفوانيس، ونغني:
الدكان ده كله عمار وصاحبه ربنا يغنيه
يهبنا صاحب الدكان من الملاليم- عملة مندثرة – ما يدخل السعادة إلى نفوسنا، ربما أضعاف ما نشعر به ونحن نأخذ هبات أهلنا في المناسبة نفسها.
قد يرفض صاحب الدكان، ويطردنا، فتعلو أصواتنا:
الدكان ده كله خراب وصاحبه ربنا يعميه
ونجرى.
كنا نسلي أنفسنا بما نسميه” شكل للبيع “.ألجأ إلى رشاقة جسدى – باعتبار ما كان – فأقفز على عنق أحد المارة ممن نتوسم في ملامحه طيبة. يسقط الرجل – بتأثير المفاجأة – من طوله، يخرج الأولاد من مكامنهم، وفي أيديهم العصى، ينهالون عليه بضربات سريعة، مؤلمة، ويختفون قبل أن يفيق الرجلمن الصدمة.
تكررت اللعبة، وطالت عصينا أجساد الكثيرين، مجرد شقاوة عيال، يشغلها التسلية وغير المألوف، وليس إحداث الأذى.
ثم جاء اليوم الذي كان ينبغى فيه أن ندفع الثمن: قفزت علي عنق شاب صعيدي، لحقته عصي الأولاد في سقوطه على الأرض، واختفينا – كالعادة – قبل أن يحاول رد ضرباتنا.
نفض الشاب ثيابه، ومضى .
عدنا إلى شكل للبيع وغيرها من الألعاب: الاستغماية، عنكب يا عنكب، نطة الإنجليز، أولها اسكندراني إلخ.
قبل السحور، كان التعب قد هدنا. جلسنا متجاورين على رصيف شارع التمرازية الخلفي، يغني أحدنا، ونردد وراءه، ونحن نهز الرؤوس:
وحوي يا وحوي .. إيوحه
وكمان وحوي .. إيوحه
فاجأت أولنا ركلة قدم قاسية طوحت به في قلب الشارع. تزامنت صرخة الولد مع صرخاتنا، ونحن نتلقي الركلات السريعة، المفاجئة، من قدم الشاب الصعيدي.
أوهمنا أنه مضى بعيدًا، لكنه ظل في المكان، حتى جاءت اللحظة التي اختارها، فثأر لنفسه!