إذا كانت حياتنا الثقافية قد شهدت الكثير من المعارك ، فإن المعارك التي خاضها مصطفى صادق الرافعي ضد عدد من مفكري العصر وأدبائه، تظل ثابتة في الذاكرة الثقافية، لخطورة القضايا التي تناولتها من ناحية، ولحدة المساجلات بين أصحاب الرأي وأصحاب الرأي الآخر من ناحية ثانية.
ألف الرافعي ” تحت راية القرآن ” رداً على كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي”. وكان كتاب طه حسين قد أحدث ردود أفعال واسعة، مقابلًا لانطلاقه من مذهب الشك الديكارتي ، بحيث شك بما ورد في القرآن الكريم حول قصة إبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة المشرفة. كما ذهب إلى أن معظم الشعر الجاهلي من وضع شعراء العصر الإسلامي، فلا صلة له بالعصر الجاهلي.
شارك الرافعي في الحملة العنيفة التي شنها عدد من مفكري الفترة وأدبائها بسلسلة من المقالات نشرتها له جريدة ” كوكب الشرق “. وبقية القصة معروفة، حين أحيل طه حسين إلى النيابة العامة ، فانتهت إلى أن ما توصل إليه طه حسبن من نتائج ، سبقه إليه فيه بعض المستشرقين، وحفظت النيابة أوراق القضية لعدم كفاية الأدلة، ولثبوت حسن النية فيما صدر من طه حسين. وتوقفت الخصومة – من يومها – بين الرافعي وطه حسين.
كما نعلم، فقد شهدت الحياة الثقافية – منذ أوائل القرن – معارك عنيفة، أبطالها رموز الثقافة العربية، مثل معركة “تحرير المرأة “، ومعركة الديوان ( تناول العقاد والمازني – بالنقد – إبداعات المنفلوطي وشوقي وحافظ، ونال الرافعي في الديوان رذاذ كثير )، ومعركة الإسلام وأصول الحكم، ومعركة الشعر الجاهلي، ومعركة أنستاس الكرملي ومحمد مندور، ومعركة الشيخ الشعراوي من ناحية، والحكيم وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس من ناحية ثانية، وغيرها.. لكن معارك الرافعي ضد المطالبين بالثورة على الأدب العربي تظل هي الأبقى في ذاكرة تاريخنا الثقافي.
ناصر الرافعي الأدب العربي ضد المطالبين بالثورة عليه. وبالإضافة إلى معركته مع طه حسين في الشعر الجاهلي ، فقد دخل معركة حول القديم والجديد، طرفها المقابل سلامة موسى. سلامة موسى يرى أن التراث العربي لا قيمة له، وأن الحياة المادية تغيرت، فلابد من ثم أن يتغير الشعور، وتتغير العواطف، ولابد من تغير التعبير، وتغير الأدب بعامة. وقال الرافعي: إن الأدب العربي يتسع لكل جديد، وكل أدب يخرج على أساليب العرب وطرقهم، ليس أدبًا عربيًا. واحتدت المعركة، ودخل فيها العقاد بمزاجه النفسي المعروف، وعباراته التي قد تصبح جحيمًا. واتسعت المعركة بين العقاد والرافعي. وكان ” على السفود ” انعكاسًا مباشرًا للخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد. وعاب الرافعي على العقاد كل
كتاباته، وعاب عليه شعره تحديدًا، وكأنه – كما يقول أستاذنا شوقى ضيف – جاء ليرد عدوان العقاد على شوقى!. تتبع مارآه خطأ في اللغة أو النحو أو العروض ، وأسرف في البحث عن الخطأ، ومن أراد تصيد الخطأ – كما تعلم – فلابد أن يجده. وكان الهدف هو وضع العقاد على السفود حقيقة لا مجازًا. وكتب اسماعيل مظهر في تقديمه لكتاب على السفود: ” وعسى أن يكون السفود مدرسة تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم ، ومثالًا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص، ووثنية الصحافة في عهدها البائد”.
واللافت أنه رغم الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد، فإن العقاد كتب – بعد وفاة الرافعي بثلاث سنوات – ” إن له أسلوباً جزلًا، وإن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين”.
وعندما حقق زكى مبارك كتاب ” زهر الآداب ” للحصري القيروانى ، لاحظ الرافعي أن زكي مبارك فاته أخطاء كثيرة في الكتاب، وأنه قد أساء أكثر مما أحسن. ونشبت معركة – لفترة طويلة – بين الرافعى ومبارك، جاوزت كتاب القيرواني إلى آفاق ملتهبة.
كان لكل تلك المعارك إرهاصاتها المتمثلة في محاولات الرافعي النقدية الباكرة. كان أول مقالاته في النقد عام 1905. طلبت منه مجلة ” المقتطف ” أن يكتب لها مقالًا عن الشاعر الكبير محمود سامي الباودي بعد رحيله، فوصف البارودي بأنه شاعر فحل مجدد، لكنه أخذ عليه ضيق الفكر، وضعف الحيلة في إبراز المعاني واختراعها. وحمل على المنفلوطي بقسوة، مما أدى إلى نشوء خصومة بينهما.
التهمة التي وجهت إلى الرافعي أنه كان سلفي التفكير، يرى أن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف. وهذه – في تقديرى – تهمة ظالمة. فمن المهم أن نضع الأديب في عصره، ونتعرف إلى آرائه من كتبه، وليس من خلال مساجلات الصحف. فتفهم ظروف الفترة، والقراءة الواعية المتعمقة، هي الأرضية الحقيقية لأية محاولة للنقاش الموضوعى. أما اختلاق الوقائع، وإلصاق التهم دون تثبت، فهو ما قد يحيل المعركة الفكرية أو الأدبية إلى مشادة كلامية، يخرج منها كل الأطراف متسخي الثياب!. كان الرافعي مؤمنًا بالعلم، ولكن دون أن يخالف المرء المسلم تعاليم الدين، فقد جاء العلم الحديث بالمعجزات – الكلام للرافعي – ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته. ” فهل غير الدين يجئ بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، والنفس وهمومها، وبين ما هو حق، وما هو واجب”. ولايخلو من دلالة قول الرافعى: ” ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلاّ رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب”!
أما اتهام الرافعي بالولاء للدولة العثمانية، فهو اتهام ساذج، وتغيب عنه حقائق كثيرة. ويكفي أن نتذكر الأغنية الشعبية التي كان يرددها المصريون في أعقاب عزل الخديو عباس حلمي الثاني:
يا أمة الإسـلام ليش حزينة؟
إن كان على عباس بكره يجينا
ويدق طبل الفرح في أراضينا.
كانت أعداد هائلة من الرأي العام المصري تأمل فى دولة الخلافة لإنقاذ مصر من قبضة الاحتلال البريطاني. وهو ما عبرت عنه قيادة الحزب الوطني، وما عبّر عنه كذك انضمام المتطوعين المصريين إلى قوات الأتراك في أثناء الحرب العالمية الأولي.
كان مصطفى صادق الرافعي صادق المصرية، مثلما كان محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وقاسم أمين وحافظ ابراهيم وعبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد ويحيى حقي وتوفيق الحكيم وعلى أدهم إلخ، ممن ولدوا لآباء أو أمهات غير مصريين.
لذلك فإن قول نعمات أحمد فؤاد بأن الرافعي كان يكره مصر لأنه سوري عثماني، دخل أجداده مصر مع أسرة محمد علي.. هذا القول، يحتاج إلى مراجعة شديدة!
إن أصداء معركة الشعر الجاهلي ما تزال تتردد في حياتنا الثقافية، منذ العشرينيات من القرن العشرين إلى اقتراب نهايته، وأغلب الظن أنها ستظل قائمة في المستقبل، ذلك لأن طه حسين في كتابه الذي اعتذر عنه – فيما بعد – وبدّل عنوانه، فجعله ” في الأدب الجاهلي “، وحذف فيه، وبدّل.. طه حسين شكك – في كتابه – في ثوابت الفكر الإسلامى ، وفى التاريخ الإسلامى. حتى سعد زغلول لم يجد لتهدئة الجماهير الغاضبة إلاّ أن يقول: وماذا نفعل إن لم يفهم البقر؟! ( يقصد طه حسين! )
وكتبت أقلام كثيرة، وسوّدت صفحات جرائد وكتب، تدين طه حسين، وينزع عنها بعضها يقينه الدينى، ويطالب بعضها بمعاقبته عقاب الملاحدة. ولولا وعي وكيل النيابة المحقق في القضية لشهدت حياتنا الثقافية – آنذاك – ما يجاوز المعارك القلمية، إلى نتائج سلبية خطيرة!