يعجبنى القول: الزمن لا يمضى، بل نحن الذين نمضى.
أشفق على هؤلاء الذين يولدون، ويعيشون، ويرحلون، دون أن يعنى بهم أحد، لا يضيفون شيئًا، ولا يتذكرهم مخلوق، كأنهم لم يخلقوا.
تقدم العمر ليس مكسبًا ولا خسارة، ليس جائزة ولا هو استلاب جائزة، لأن الشيخوخة – أنا شخصيًا لا أعترف بظواهرهاالسلبية! – مرحلة من العمر لها عطاؤها وخصوصيتها، وتواصلها المؤكد مع مراحل العمر السابقة.
بتعبير آخر، فإن تقدم العمر ليس عقابًا نواجهه، ولا ميزة نحسد عليها. إنه استمرار للحياة، من يحب الحياة [ من منا لا يحب الحياة ؟ ] يتمنى أن تطول، ونحن ندعو لأحبائنا بطول العمر، وهم يتقبلون دعواتنا باعتبار أن الأمنية تشغلهم ، وأنها أمنيتهم هم أيضًا، فإذا طالت أعمارهم،ـ ربما استجابة لدعواتناـ تبدّلت نظرتنا إليهم: تفكيرهم قاصر، أفكارهم غير مقبولة، ومشوشة، الدخول معهم فى مناقشات عبث لا طائل من ورائه!
أنت تبلغ الستين ، وقد تبلغ السبعين ، وربما جاوزتها بعشرة أعوام أخرى.. فلا تشعر بما يسمى الشيخوخة. تحيا حياتك: تصحو، وتخرج إلى عملك، أو تخلو إليه إذا كان المعاش قد فرض عليك، وتقود السيارة، وتتردد على المسارح ودور السينما والنادى، وتجلس إلى أصدقائك، وتعاملك مع الأمراض هو التعامل الذى يواجه به أي إنسان في أي عمر ما قد يعانيه من أزمات صحية. وإذا كانت الفاضلة حرمك قد لاذت برحاب ربها، فإنك ستنصت – ولو فى هيئة اللا مبالي- إلى نصائح الأصدقاء بأن تبحث عن زوجة جديدة تؤنس وحدتك. وربما زاد متخابث فنصح بأن تكون الزوجة صغيرة السن حتى تضيف إلى شبابك!.
لكن البعض يصر على اعتبار المتقدم فى السن خطوتين والقبر، لا يعنيهم إلا هيئته الظاهرة من شعر أبيض، وما قد يظهر على الوجه من تجاعيد. يهملون الصحة البادية في الحركة والتصرفات والكلام.
أنت تتقدم فى السن، فأنت تحتاج إلى نظرة خاصة، رعاية خاصة في كل خطواتك. حتى لو رفضت نظرات الإشفاق والمساعدة والأيدي الممدودة، فإنهم يصرون على إبلاغك في كل لحظة ، بالقول والفعل، إنك ” بركة “!.. وهي الكلمة التي تعني أن الإنسان قد أصبح على هامش الحياة، وأن وجوده مجرد بركة. تمامًا مثلما يطلق البعض على من لا يفعل شيئًا، أو لا يحسن فعل شئ، بأنه فاسوخة!.
تبدأ فى تناول الطعام، فتعلو صيحة مذكّرة: ألا تحتاج إلى دواء قبل الأكل؟!.. ويواجهك السؤال، وأنت تمضغ اللقمة: هل هي أسنانك، أو أنك تستعمل طقمًا؟
لم تكن شكوت له، ولا ظننت أنه لاحظ مغايرة في طريقة تناولك الطعام، هو إشفاق غريب، أملاه التصور أن سنّك المتقدمة تحرمك من الأسنان الطبيعية. وتلاحظ الأعين المشفقة عملية انتقال الطعام من المائدة إلى فمك ، فيعلو التنبيه : اكتف بالمسلوق!. وحين تنزل من السلم، أو تصعد إليه، تمتد الأيدى لتساعدك كى لا تقع. وقد ترتبك خطواتك، وقد تقع، لأنك تصر على رفض العون، واستخدام السلم دون معاونة لا تحتاجها بالفعل. وتحاول تذكر ما نسيته، فتهتز الرءوس باقتناع مشفق: معلهش!. ويتناسى أصحاب الملامح المتأثرة أن النسيان بعض خصائصك منذ الصبا الباكر، وأنه لا يفرق بين شاب وشيخ. فإذا أبديت رأيًا لا يرضي محدثك، لا يضع ما قلت في خانة اختلاف الرأي الذي لا يفسد للود قضية، لكنه يرجعه إلى أن العمر الافتراضي لعقل الكريم قد انتهى، فعليه أن يتظاهر بالإنصات من قبيل التفويت. وقد يصل الحوار بينك وبين محدثك إلى طريق مسدودة، فيلجأ إلى تعبيرات مستفزة كقوله إنك أصبحت دقة قديمة، وتحيا في غير زمانك، ويذكرك بأن بغال الحكومة إذا أدركها الكبر ضربت بالرصاص!. الموضوعية هي آخر ما يفكر فيه محاورك الشاب. المهم أن ينتصر في المعركة الكلامية، بصرف النظر عن الوسيلة.
يحلو لك السهر أمام التليفزيون، فتأتي الهمسة المحذرة: ألا تحتاج إلى النوم ؟!.وعندما ترتدى ثوبًا مما كنت ترتديه في أيام فائتة، تصدمك نظرات الدهشة والاستياء، وتتهامس التعليقات: هذا رجل لا يحترم سنه!. ومع أنك تحرص على الوقت، فلا تبدده، وتظل تعمل وتنتج بينما الأصغر سنًا مشغولون بالفسح والجلوس على القهاوي والبحث عن المتع الوقتية، فإن الصمت هو رد فعلك أمام الملاحظة السخيفة: راحت عليك!.
ولعل أخطر ما يواجهه المرء-عندما يتقدم به العمر، ويقارب الثمانين، أو يعبرها – نظرات التوقع التي تحاصره في حركاته وسكناته، كل قول، وكل تصرف، يوضع في إطار محدد اسمه الزهايمر، حتى لو لم يكن هناك زهايمر ولا يحزنون، فهو لابد أن يأتي. المسألة وقت، يبلغ الأمر حد تشكك المرء إن كان قد دخل نفق الزهايمر بالفعل، وهو نفق يمضي – كما تعلم – إلى الارتداد للبداية، الطفولة، فالذواء، فالتلاشي، أي الموت .
أعرف أديبًا كبيرًا – وهو ناشر فى الوقت نفسه – لاحظ – بعد أن تقدم به العمر – نظرات التوقع في أعين أبنائه، أهمل مجرد التلميح للمعنى، وجد في انشغاله بعمله ما بين كتابة ومراجعة وتصويب أخطاء الآخرين قبل أن يدفع بالأصول إلى المطبعة.. وجد في ذلك ما تقر به أعين الأبناء، فتغيب نظرات التوقع، لكن التوقع طال بتقدم العمر. جاوز الرجل التسعين وهو يواصل حياته، حتى فروض الصلاة يؤديها في مواعيدها، يساعده جسده على حركات الصلاة إلى السجود .
تحولت نظرات التوقع إلى تصرفات معلنة، مثل إظهار الإشفاق على الوالد ما يبذله من جهد، وأنه يجب أن يتنبه إلى ظروفه الصحية، يتأكدون مما لحق به حين ينسى يومًا من أيام الأسبوع، هل اليوم هو الأحد أم الثلاثاء؟. هو إذن لا يفرق بين يوم وآخر، فقد الإحساس بالوقت. ثم فرض الأبناء على أبيهم حصارًا فهم لا يأذنون له أن يقود سيارته، بل يذهب إلى المكتب في سيارة أحدهم. وحين تواصل الجذب والشد، فاجأ الأبناء الأعزاء أباهم بأن عليه أن يلزم البيت مراعاة لتقدم عمره. وأسلم الرجل نفسه لاكتئاب، رافقه أشهرًا قليلة، قبل أن يسلمه إلى الموت!
قدّرت اعتراف الأبناء أنهم أضروا أباهم بتصور إشفاقهم عليه، وأن الزهايمر لم يتسلل إلى ذهن الرجل، حتى أقصى عن الحياة بقسوة، وبلا سبب!
المتقدم فى عمره الآن كان صغيرًا ، والشاب سيصبح كبيرًا. هذا هو التطور الطبيعى للحياة الإنسانية، مراحل تبدأ بالميلاد، وتنتهي بالموت، وتمر بالطفولة والصبا والشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة.
بلغ المتقدم في العمر مرحلته السنية، بعد أن عاش مراحل سابقة: من الميلاد، إلى الشيخوخة التى يحياها. أتيح له أن يعيش كل مراحل حياته، أما الأصغر سنًا فهو لا يدري إن كانت حياته تستمر، أم أنه سيغيب عن العالم، في لحظة لا يعرفها.
إذا أحسنا النظر إلى الشيخوخة، والتعامل مع تأثيراتها الجسدية والنفسية، فإن التعويض وارد، بمعنى استنبات الورد في الأرض المجدبة. عمر المرء بما قدمه ويقدمه، وليس بعدد السنوات التي عاشها. وعلى سبيل المثال، فإن إسهامات أستاذنا نجيب محفوظ منذ بداية رحلة المعاش، أغزر من إسهاماته قبلها ( راجع قائمة كتبه! ) لكن الرجل لم يكن يعدو – في سنوات حياته الأخيرة – صوتًا وصورة فى نظر من يتصورون وجودهم الأدبي في ثلاثة أو أربعة كتب مطموسة الملامح !..
عمر الإنسان ليس بالأعوام التي عاشها، وإنما بالإنجازات التي أضافها إلى الدنيا.
أرفض اعتبار الشيخوخة محطة انتظار نهائية للموت. قال نجيب محفوظ – عقب فوزه بجائزة نوبل – إنه يركب قطارًا بلغ محطة سيدى جابر، فليس ثمة إلا محطة الإسكندرية..
المعنى واضح بالطبع . لكن نجيب محفوظ أهمل انتظار وصول القطار محطة النهاية، وقدم لنا العديد من الإبداعات والآراء التى أضافت إلى تجربته الإبداعية بخاصة، والإبداع العربى بوجه عام .
لا شأن للفن إطلاقًا بالأحوال المدنية، لا شأن له بشهادات الميلاد، ولا حتى شهادات الوفاة، وما بين الميلاد والوفاة من حياة تقصر أعوامها أو تطول.
حتى فى حياتنا العادية قد يكون الشاب سلفي التفكير، ولا أقول نقلي التفكير، فكل خير في اتباع من خلف، وكل شر في اتباع من سلف، وقد يكون الشيخ ميالاً إلى التجدد والتجريب والتطلع إلى ما وراء الآفاق المترامية .
ظلت أفكار هربرت ماركوز – حتى بعد أن رحل عن عالمنا – هي الملهمة الحقيقية لكل حركات الشباب – في أوروبا بخاصة – منذ 1968. وجد الشباب فى أفكار ماركوز – بعد أن جاوز الثمانين عامًا – منارة ثورية يهتدى بها في طريق البحث عن الأفكار الجديدة.
ومع تقدم أعوام سلامة موسى، فإنه ظل على شباب ذهنه ووجدانه، وظل يبشر بالعلم والتقدم، حتى أسقط الموت قلمه.
إذا كان المرء يظهر امتنانه للدعوة بطول العمر، فإن الأسى يملأه إذا تقدم به العمر بالفعل، فواجهه من دعا له بطول العمر بالغمز واللمز والمعايرة والتذكير بخيل الحكومة!
كيف تؤاخذنى على ما لا حيلة لى – ولا لك – فيه ؟!
لماذا لا نترك الآخرين يحيون المرحلة من العمر التى يرون أنهم يحيونها؟.. لماذا نفرض المصمصات والابتسامات المشفقة والتحذيرات والتظاهر بمد العون، على من يجدون في ذلك كله تسلطًا مرفوضًا؟!..
والاّ إيه.. يا بركة ؟!