عمر هذا الكتاب – في العربية- يزيد عن مائة عام.. لكن تاريخ ظهوره يعود إلي عام 709 علي وجه التحديد.
وعلي الرغم من المناقشات الحادة والصاخبة والعنيفة – في الفكر الأوروبي – والتي تراوحت بين التساؤل والرفض لهذا الكتاب الخطير، فإن القلة من المفكرين المسلمين والمسيحيين هم الذين عرضوا له بالمناقشة والتحليل.
بعد دراسة مسئولة وواعية وجادة أصدر الباحث عوض سمعان هذا الكتاب: إنجيل برنابا في ضوء التاريخ والعقل والدين.
كان أول ظهور إنجيل برنابا بالعربية عام 1908، لكن النسخة الأصلية منه ظهرت باللغة الإيطالية سنة 1709لدى “كرامر” مستشار ملك بروسيا، ثم أودعت مكتبة فيينا عام 1738. وكان غلاف النسخة من طراز شرقي، وبصفحته الأولى عبارات مكتوبة باللغة العربية، مثل ” الله عظيم” و” إذا أرديتم” ( أى أردتم ) من الله شيئًا، أرديتم خير الأشياء، وثمة نسخة أخرى باللغة الإسبانية، يقول كاتبها- مصطفى العرندي- أنه ترجمها عن النسخة الإيطالية، وقد جاء في المقدمة أن راهبًا اسمه فرامارينو، زار باب روما بكتوس الخامس في عام 1085 ، وعثر لديه علي كتاب للقديس ايريناوس يذم فيه بولس الرسول، ويشير إلي إنجيل باسم ” برنابا”، فراح الراهب يصلي إلي الله حتى يهديه إلي ذلك الإنجيل، واستجاب الله لصلاة الراهب، وأغرق البابا في نوم عميق، لم يفق منه إلا بعد أن فتش الراهب في أرجاء مكتبة البابا، وعثر علي الإنجيل، فخبأه في ردائه، وجلس ينتظر استيقاظ البابا، ليستأذن وينصرف.
وفي الحقيقة أن هذا الإنجيل – برغم اتفاقه، في الأغلب- مع وجهة النظر الإسلامية – لم يجد رأيًا مسئولًا يؤكد صحته، أو يدافع عنه.
إن كتابات المؤرخين المسلمين التي تعرض للفترة منذ الدعوة المسيحية حتى القرن الرابع عشر، ،مثل” مروج الذهب” للمسعودي و”البداية والنهاية” للإمام عماد الدين، و “القول الابريزي ” للمقريزي، وغيرها، تشير إلي أن إنجيل المسيحيين هو الذى كتبه ماركوس ( مرقص) ولوقا ويوحنا، أما برنابا، فليس ثمة ما يشير إلي كتابه علي الإطلاق.
إذا كانت دراسة عوض سمعان هي الأولى في اقتحامها، وريادتها، لتناول ذلك الموضوع الذي كانت الثرثرة في تناوله همسًا في أغلب الأحيان- نظرًا لحساسيته الفائقة – فقد أتيح لبعض الأقلام أن تعرض له، وتناقشه، بعد ترجمته إلي العربية- ومنها علي سبيل المثال، الأستاذ العقاد الذى يقول في كتابه ” عبقرية المسيح” إن الأناجيل ( أو بالأحرى أناجيل المسيحيين) هي العمدة الوحيد التى اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلي عصر المسيح، “وليس لدينا نحن بعد قرابة ألف عام عمدة أحق منها بالاعتماد”.
ويذهب العقاد إلي أن الكثير من عبارات الإنجيل المذكور كتب بصيغة لم تكن معروفة قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها، وأن وصف الجحيم يستند إلي معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود والمسيحيين في العصر الأندلسي، وأن بعض العبارات الواردة فيه تسربت إلي القارة الأوروبية نقلًا عن المصادر العربية، فضلًا عن الأخطاء التي لا يجهلها اليهودي المطلع علي كتب قومه، ولا يرددها المسيحي المؤمن بالأناجيل الأربعة، ويرفضها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن.
أما الأستاذ محمد شفيق غربال، فإنه يقول في ” الموسوعة العربية الميسرة” تحت كلمة “برنابا” : إنجيل مزيف، وضعه أوروبي في القرن الخامس عشر، وفي وصفه للوسط السياسي والديني في القدس،” أيام المسيح” أخطاء جسيمة.
لكن : ماهى الأدلة التى تؤكد تزييف ذلك الإنجيل؟
لأنه لا توجد جريمة كاملة بعد، فقد وقع كاتب برنابا في العديد من الأخطاء الموضوعية التى تقيمه علي أساس من التزييف.
أول هذه الأخطاء، أن اليوبيل يقع كل مائة عام، والصحيح أنه كان يقع لغاية وجود المسيح علي الأرض كل خمسين عامًا، ولم يجعل اليوبيل كل مائة عام سوى أمر البابا بونيفاس الثامن 1300م
ثانى الأخطاء، قول الإنجيل ” إن نيقوديموس وضع مائة رطل من العطور علي جثة يهوذا ظنا منه أنه المسيح، وأن المسيح قال إن الصيرفي ينظر في النقود ليرى هل هى من العيار المعهود. والواقع أن العثمانيين كانوا أول من استعمل الرطل في القرن الرابع عشر، ثم نشروا استعماله في البلاد التي فتحوها، أو التي كانت تربطهم بها علاقات تجارية، مثل إيطاليا وإسبانيا، فضلًا عن أنهم أول من استخدام معايير الذهب، وأطلقوا علي أجود أنواعه اسم “البندق”
ثالث الأخطاء ما يقوله الإنجيل من أن السماء تسع طبقات، عاشرها الفردوس، وأن الجحيم مكونة من سبع طبقات، كل طبقة نوع خاص من الخطايا، وأن عذاب الآخرة لن يقتصر علي جهنم فقط، بل ستعذب الحواس بجليد لا يحتمل، ثم تعود خطايا البشر في النهاية كنهر إلي إبليس، لأنه مصدرها، وكل هذه ” الصور” تغيب عن الكتب الدينية والفلسفية القديمة، وإن كانت قد اجتمعت في كوميديا دانتى الشهيرة، ثم انتشرت في المؤلفات التالية،
رابع الأخطاء- وهو ما يتصل بالبيئة وجغرافية المنطقة- إن المؤلف يشير إلي الناصرة التى ولد فيها المسيح، وأورشليم العاصمة الدينية القديمة لفلسطين، كميناءين علي البحر، والواقع أن الأولي مدينة علي السهل، إما الثانية فهى مدينة علي الجبل.
أما قول الكاتب إن الحقول والأودية في فلسطين تكون جميلة خلال الصيف، فيكذبه أن فلسطين فى عصر المسيح كانت قاحلة تقريبًا في ذلك الفصل، لأنها وقتئد لم تكن تعتمد إلا علي الأمطار التى تسقط في الشتاء، بعكس الحال في غرب أوروبا، حيث أن الأنهار هناك دائمة الجريان مما يضفى علي فصل الصيف روعة حقيقية.
خامس الأخطاء – وهي ما يتصل بالنواحى الدينية الخالصة- تتبدى في آرائه الدينية، وإلمامه بموضوعات أقرب إلي العقيدة اليهودية، فهو يشير إلي قصة سوسنة والشيخين، وإلي الملاك روفائيل الذى يقبض الأرواح.. وقصة سوسنة والشيخين يذكرها فقط بكتاب ” ملحق سفر دانيال”
أما روفائيل، فإن ذكره لا يأتي إلا في كتاب أخنوخ، والكتابان ضمن مجموعة الأبوكريفا التى تضم قصصًا وأحلامًا يهودية كتبت في القرن الثانى قبل الميلاد.
سادس الأخطاء – وهي ما يتمثل في محاولة التقليل من قدر شخص المسيح – بذكر بعض الترهات التي ترفضها العقيدة الإسلامية.
سابع الأخطاء يتصل بالخرافات والتناقضات التى تتخلل فقراته، كالقول إن الذين خلت قلوبهم من إلإيمان سيظلون في الجحيم لمدة 70 الف سنة، إلي آخر تلك الأرقام التى أسرف الكاتب في ذكرها بصورة مخيفة!.
لقد أهمل كاتبو الأناجيل الأربعة ذواتهم تمامًا.. لكن برنابا تصيد كل الفرص التى يقدم من خلالها نفسه، مثل قوله إن كاتب هذا الإنجيل تأسف مرة لمعاملة بعض الناس للمسيح معاملة سيئة، فقال له المسيح: لا تأسف يا برنابا!
ويؤكد أنه أحد الرسل الثلاثة الذين شاهدوا مجد المسيح علي الجبل، وأن المسيح طلب منه أن يمكث معه طويلًا، وقال له بأسلوب أقرب إلي المناجاة: إن هذا لأعظم شقاء يكابده الإنسان يا برنابا!. ثم أضاف وهو يبكى : يجب أن أكاشفك يا برنابا بأسرار عظيمة!.
والحقيقة المؤكدة من خلال تلك الأخطاء الفادحة، إن كاتب إنجيل برنابا لم يكن مسيحيًا، ولم يكن مسلمًا كذلك، وإن كان قد أتيحت له فرصة للاتصال بعلماء المسلمين إبان حكم العرب للأندلس.
ولأن إعدادًا كبيرة من اليهود قد اعتنقوا الإسلام في تلك الفترة، توصلًا إلي تولى المناصب الرئيسية في الأندلس، فأغلب الظن أن مؤلف برنابا يهودي اعتنق الإسلام، ودرس ما يتصل به من قرآن ولغة وأحاديث نبوية وقدسية وعلوم وفلسفة، ثم ألف هذا الإنجيل ونسبه إلي برنابا أحد رفقاء بولس، وربما كان اسم مؤلف برنابا – بعد إسلامه- كما يقول عوض سمعان- هو مصطفى العرندى، وهو الاسم الوارد في النسخة الإسبانية للإنجيل.