العلاقة بين الأنا والآخر نبض العديد من الروايات العربية، منذ علم الدين لعلي مبارك، مرورًا بأديب لطه حسين، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وقنديل أم هاشم ليحيى حقي، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وأصوات لسليمان فياض، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وعشرات غيرها. حتى الروايات الحديثة التي تناقش هذه العلاقة الملتبسة من وجهات نظر، فرضتها تطورات الأوضاع العالمية، ومنها خروج الاستعمار الغربى كقوة مسلحة، لتحل – بدلاً منها – قوى الاقتصاد والميديا والتآمر وبذر الفتن.
اللافت أن الآخر الإفريقي، أو الآسيوي، أو الأمريكي اللاتيني، يغيب عن الروايات التي تناولت الحوار، أو الصراع، بين الأنا والآخر، ربما لأن الحقب الاستعمارية التي عاشها الوطن العربي قد أفرزت العديد من الـتأثيرات السلبية، الأمر الذي حدد قضية ” الأنا والآخر ” بمعناها الحضاري والمدني، تكاد تقتصر على العلاقة بين العربي والأوروبي. وهو ما يختلف عن طبيعة القضية، طبيعة الأنا والآخر، في الروايات التى كتبها مبدعون ينتمون إلى حضارات ومدنيات أخرى.
اميلينوتومب بلجيكية الجنسية، أتاحت لها سنوات إقامتها الطويلة في اليابان أن تجيد التحدث باليابانية، تصورت أنها ستجد نفسها في العمل داخل شركة يوميموطو، لكن ما واجهته منذ بداية عملها في الشركة ألغى تصورها أن إجادتها لليابانية ستعينها في عملها، أظهر رؤساؤها استنكارًا للغتها الجيدة: أنت لست يابانية، ونحن نقدمك لزبائننا بهذه الصفة.
في وقت قصير، عرفت عادات رؤسائها – وكلهم كانوا رؤساء لها – ففي الثامنة والنصف صباحًا بالتحديد يحتسي السيد صايطو فنجان القهوة باللبن، ويأخذ قطعتي سكر في العاشرة صباحًا، بينما يشرب السيد ميزونو طاس كوكا كولا كل ساعة، وللسيد أوكادا شاي إنجليزي مع قليل من اللبن في الخامسة مساء، ولفوبوكي شاي أخضر في التاسعة صباحًا، وقهوة عند الزوال، وشاي أخضر في الثالثة عصرًا، وقهوة أخيرة في السابعة مساء.
كان قد مضى على بدء عملها في الشركة حوالى الشهر، وكان عقدها لمدة سنة، وأزمعت – حين بدت الأمور عكس ما تصورته – أن تقدم استقالتها، لكنها لم تقتنع بالفكرة، فليس فى المسألة ما يسيء إلى مشاعر الغربي، لكن الياباني ينظر إليها من منظور مغاير، يتصل بالشرف. عرفت أن استقالتها قبل انقضاء الفترة ستجلب لها نظرة إدانة في أعين اليابانيين، وانتقادًا من أهلها.
بدت العدوانية هي الصفة الغالبة على كلمات وتصرفات قياداتها في الشركة. قبل أن يقهرها الإحباط فوجئت أن الرئيس الأول للشركة يختلف عن كل مرؤوسيه، وكل رؤسائها، رجل طيب، وبسيط، ومتواضع، ويحب الدعابة، لكن مرؤوسيه – رؤسائها – أفلحوا في إبعاده عنها.
لم تعرف اميلي إن كانت تصرفات الآنسة موري تصدر عن عداء، أو أن ذلك ما يقتضيه وضعها كرئيسة لها. وحين حاولت استمالة مشاعرها بإبداء ضيقها بتصرفات رئيسهما المشترك السيد صايطو، فإن الآنسة موري دافعت عنه.
بادرت اميلي – لتؤكد حبها للعمل – بتوزيع الرسائل على الموظفين، وجدت في ذلك العمل بساطة وفائدة وإحساسًا إنسانيًا ومناسبًا للتأمل، وتمنت القيام به مدى الحياة. لكن السيد صايطو – ذلك الذي ضاقت به – ما لبث أن استدعاها لينبهها إلى أنها اقترفت جريمة في غاية الخطورة، حين مارست نقل الرسائل دون استشارة رؤسائها المباشرين، وجد ساعي بريد الشركة الأصلي نفسه بلا عمل ” الاستيلاء على عمل الغير عمل سيء”.
مارست اميلي عملًا آخر – اسـتأذنت هذه المرة – وهو ضبط تواريخ النتائج الموزعة في المكاتب، لكن السيد صايطو أشار إلى طريقتها في أداء العمل، وأنها تشتت الموظفين بحركاتها المسرحية.
لم تكن ملاحظات السيد صايطو لها طلبًا للدقة، بقدر ما كانت تعبيرًا عن شخصية ذات طبيعة مسيطرة، ولعلها طبيعة عدوانية، تذكرنا بحكاية التركي الذى وضع القلل على الرصيف، ودعا الناس للشرب، يمد أحدهم يده إلى قلة، فينهره التركى: لا تأخذ هذه.. خذ تلك، مجرد رغبة في تأكيد الذات، وإملاء السيطرة.
كانت نفسها الشاعرة الحساسة نقيضًا لشخصية السيد صايطو الذى يشغله معاقبتها، ولو على حساب تمزيق مئات الأوراق التى كانت – فى الأصل – أشجاراً مسكينة بريئة، وتذكرت قسوة اليابانيين فى التعامل مع أنفسهم، مثل الإقدام على الانتحار لفعلة قد لا تستحق الاعتذار!
أوكلت إليها الآنسة مورى أكثر من عمل، فلما تبينت عدم قدرتها على أداء عمل حقيقي، صحبتها إلى دورة المياه، وعهدت إليها بالإشراف عليها” بوجه واثق، أرتني في لهجة محترفة، الأشغال التي سوف أتولى القيام بها من تلك اللحظة، تغيير اللفيفة بقماش جاف نظيف، بعد استعمالها بالكامل في تنشيف الأيدي، إعادة تزويد المراحيض بالورق الصحى. لهذا الغرض عهدت لي بمفاتيح بالغة الأهمية لخلوة مهملات توضع فيها تلك الأشياء النفيسة بمعزل عن أطماع قد تكون خامرت أذهان المسئولين في شركة يوميموطو”. واطمأنت إيمي إلى أنها – بعد ذلك – لن تخشى الانحدار إلى مرتبة أدنى.
لكن الظروف السيئة طاردتها حتى في دورة المياه، الأشخاص أنفسهم الذين أتوا بها إلى ذلك المكان، هم الذين تواصلت انتقاداتهم لها. مع ذلك، فقد حاولت أن تجعل من عملها الجديد فرصة لمراجعة النفس، والتأمل، والتوصل إلى بعض الأمور التي كانت خافية عنها.
أضافت إميلى إلى ملاحظاتها أن الأفراد يحرصون أن تكون لهم عاداتهم التي يلتزمون بها، ويلتزمون بعادات وتقاليد المجتمع، حتى احتساء الشاى، له موعده الذي لا يتقدم ولا يتأخر [ ربما قرأ أستاذنا نجيب محفوظ عن الحياة في اليابان، فالتزم بذلك الانضباط الغريب الذي كان سمة لحياته! ]، ويعتز اليابانيون بكل ما يتصل بشخصيتهم، حتى لغتهم يرفضون أن ينطقها أجنبي بمثل إجادتهم لها. واعتزاز الياباني ببلاده، وبنفسه، يبلغ حد رفض استقالة من يعتذر عن عدم العمل لديه قبل المدة التي تعاقدا عليها، ذلك ما عانته إميلي حين أرادت أن تقدم استقالتها، لكنها تذكرت نظرة الياباني إلى ذلك التصرف، وأنه ربما ينطوي على جريمة.
أما شركة يوميموطو، فقد كانت مثلًا للتقدم التجاري الذي بلغته اليابان، فضلًا عن التقدم في مجالات التصنيع والزراعة وغيرها. إنها تشتري وتبيع كل ما على سطح الأرض، وميزانيتها تفوق خيال البشر. وقد وجدت إميلي في مبنى شركة يوميموطو مثلًا للفخامة والإفادة من التكنولوجيا، إلى حد أنها – وهى الأوروبية – تناست كل شيء، حين دخلت مبنى الشركة، عدا الانبهار بالفراغ والفرجة البلورية.
السرد فى رواية إميلينوتومب يمتزج بملامح من السيرة الذاتية التي يسهل التعرف إليها، حتى لو كانت الرواية أول تعرف القارئ إلى مؤلفتها. وإذا كانت الكاتبة قد أفادت من الموروث الشعبي في اليابان على مستوى الأسطورة والخرافة والمعتقد الديني والعادات والتقاليد، فضلًا عن النقدات الاجتماعية التي ترفض التقريرية والجهارة، فقد اعتمدت إميلينوتومب – في الوقت نفسه – المعلومة التاريخية والعلمية، بما أضاف إلى ثراء العمل وجديته، دون أن يتجاوز العفوية الظاهرة للسرد، وقد أفادت الكاتبة من حصيلة معرفية لافتة في الغوص داخل الشخصيات، وأجادت – بضربات فرشاة سريعة واثقة – إظهار الملامح الظاهرة والجوانية لشخصياتها. كما أفادت – في بعض المواضع – من استخدام الفلاش باك والتقطيع السينمائى.
وإذا كانت القيمة الأهم للعمل الإبداعي – رواية أو قصة قصيرة أو مسرحية – أن تعيشه، ثم تتركه فلا يتركك، يظل في وجدانك وذهنك، تفكر فيه، وتستعيده، فإن ” ذهول ورعدة” عالم يصعب نسيانه بسهولة، أو تجاوزه بمجرد قراءة الرواية .