فى الأيام العشرة الأخيرة من رمضان، يعلو صوت مؤذن جامع أبو العباس بالتواحيش، وهى غير التواشيح. مفرداتها التأكيد على الإحساس بالوحشة فى انقضاء أيام الشهر الفضيل: لا أوحش الله منك يا رمضان.. لا أوحش الله منك يا شهر الصيام .
يعد الناس أنفسهم لما قبل عيد الفطر، وللعيد نفسه. تنشط حركتهم بين البيوت والأفران، وكعك العيد على الرءوس، يقبلون على شراء المكسرات من شارع اسمه ” النقلية “، يفترش ما يسمى بسوق العيد مساحات فى الأرض الخلاء والساحات، مثل ميدان المساجد، والساحة المقابلة لجامع عليتمراز، ومواضع أخرى فيالأنفوشي ورأس التين والسيالة. يضيف إلى بهجة الليالي مولد المرسى أبو العباس الذي يأتى موعده في نهايات رمضان. الأعلام والبيارق واللافتات وخيام الصوفية وحلقات الذكر والتواشيح والإنشاد الدينى ورواية السيرة النبوية وسير الصالحين، والجلوة التى تطوف شوارع المدينة فى آخر أيام المولد، تسبقها الشارات والأعلام والدراويش الذين يلجؤون إلى أفعال الخوارق، تأكيداً لمعنى الانجذاب والمحو والفناء.
أذكر – كالطيف – ليلة إعداد كعك العيد.
كانت أمى بصحتها، بمعنى أني ربما كنت في الخامسة أو السادسة من العمر، لأنها عانت – بعد تلك السن – من مرض القلب الذي لازمها حتى رحلت عن الدنيا. كانت تشرف بنفسها على إعداد الصواني، تحملها دهب إلى فرن التمرازية القريب. ثمة نداءات وملاحظات وأنوار عالية، وباب الشقة مفتوح لتسهيل الحركة.
تظل المدينة – والأحياء الشعبية بخاصة -ساهرة ليلة العيد إلى موعد الصلاة. يدس الأطفال ثيابهم الجديدة تحت الوسادات، أو يضعونها إلى جانبهم على الأسرّة، حتى تعلو التكبيرات. يحرصون في ذهابهم إلى الصلاة على ارتداء الثياب الجديدة، والحصول على العيدية من كبار الأسرة: الجد والجدة والأب والأم والأعمال والأخوال. يحاكون الكبار في أدائهم للصلاة، ينتظرون – كما ينتظر الكبار -حتى ينتهي إمام الجامع من الخطبة.
كنا نشم رائحة العيد قبل أيام من قدومه. يصحبنا أبي إلى شارع الميدان. نشترى ” النقل ” وملابسنا الجديدة، ونضع الملابس بجوارنا على السرير. نصحو على أصوات التكبيرات في جامع سيدى عليتمراز. نطل من النافذة الخلفية على المصلين وهم يفترشون ميدان الخمس فوانيس المواجه للجامع.
تنتهى الصلاة، فيحل فى الساحة الواسعة سوق العيد : المراجيح والحاوى والأراجوز وصندوق الدنيا والنشان والفتاة الكهربائية وألعاب القوة والزحام الذى يتزايد حتى يملأ الميدان.
تعيننا أختي التي تكبرني بخمس سنوات على ارتداء الثياب الجديدة، ونقفز درجات السلم. يطلب أخى أن أظل بالقرب منه كى لا أتو..
ثم نخترق الزحام .
كانت بداية الاحتفال بالعيد – عند الأطفال – حين يتركون آباءهم، ويتجهون إلى ميدان سوق العيد، على ناصيته سيارات أجرة، مقابل ركوبها خمسة مليمات ( لا يعرفها جيل الأطفال الحالى ). تستوعب السيارة ما لا سبيل إلى حصره. تتداخل الأجساد والأيدى والأقدام بما لا يكاد يتيح فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا رؤية أي شيء . لكن سعادة المغامرة تلف الجميع .
تنطلق السيارة فى شوارع غير مرئية، ضبابية الرؤية لا تتيح التعرف إلى ما يمكن رؤيته. يشعر الأطفال من رائحة البحر أنهم يسيرون بالقرب منه. إذا قال السائق: وصلنا السراى.. عرفوا أنه قد وصل إلى نهاية النزهة أمام قصر رأس التين. يبدأ رحلة العودة دون أن يغادر الأطفال أماكنهم. مجرد إعادة الترتيب ستفضى إلى نتائج سلبية، فى مقدمتها أن البعض لن يعثر على الموضع الذي كان يشغله داخل السيارة. يهمل السائق صراخ المعاناة من كتمة النفس. يواصل السير حتى يصل إلى نقطة البداية. يندلق الأطفال من السيارة ( هذا هو التعبير الأدق! ) إلى أرض الطريق، لا يدرون كيف احتوتهم هذه العلبة الحديدية!
ما يكاد السائق يعلن عن بداية الرحلة التالية، حتى ينسى الجميع معاناتهم، يتسابقون إلى دفع المليمات الخمسة، ويندفعون داخل السيارة، تنحشر الأجساد والأيدي والأقدام، تأهباً لرحلة تتزاوج فيها اللذة والألم .
فرض اختفاء الساحات والأراضى الخلاء والزحام غياب كل هذه المظاهر التى حدثتك عنها. نحن نحتفظ بها فى نفوسنا، وإن صحبنا أبناءنا إلى المتاح من الحدائق العامة، بالإضافة إلى الفسحة الأجمل على شاطيء الكورنيش .
***