خلق الله الانسان ليعيش سعيدا على هذه البسيطة، وهيأ له سبل التنعم بهذه السعادة، فجعله سيدا من أول يوم خلق فيه، وأسجد له الملائكة على عظم خِلقتها وضَعفِ خِلقته “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ“([1])، وكرمه كرامةً فضله بها على كثير من خلقه بنص صريح في كتابه، فقال سبحانه “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا“([2]).
وإذا كان هذا مراد الله تعالى في خلقه لهذا الإنسان (السعادة)، وكانت السعادة أمرا مرتبطا بالإنسان كل إنسان، فقد اهتمت كل العلوم الإنسانية والإجتماعية (علم النفس، الفلسفة، علم الاجتماع، التاريخ) منذ زمن بعيد بالبحث والتساؤل عن المعني الحقيقي لهذه السعادة وكيف يمكن تحقيقها، ولكن الجديد في هذا الأمر، أن يثير موضوع السعادة كذلك اهتمام الباحثين في المجال القانوني، وسط تساؤلات تتعلق بمدى ارتباطها بالنصوص التشريعات.
وفى ظل الظروف الكئيبة التي مر بها العالم في السنوات الماضية ـــ سواء من ناحية الأزمات الاقتصادية التي حلت على العالم في السنوات الأخيرة، أم من حيث ظهور وانتشار أعمال العنف والأوبئة في أماكن عديدة من العالم ـــ وما ترتب على ذلك من حالتي التشاؤم والحزن لدى الشعوب، لم يكن مفاجئا أن تقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2011 ـــ وبناء على طلب من مملكة بوتان ـــ دعوة الدول الأعضاء إلى التدخل بوضع “تدابير جديدة” تأخذ بعين الإعتبار أهمية (البحث عن السعادة والرفاه)، وذلك من خلال توجيه سياساتها نحو التنمية.
واستجابة لذلك، فقد بادرت العديد من الدول إلى استهداف السعادة في برامجها الاقتصادية والتنموية، بل وبادرت دولة الامارات العربية المتحدة بإنشاء أول وزارة للسعادة في العالم وذلك في عام 2016، ويسمى الوزير وزير دولة للسعادة، ومن أهم مهامه موائمة كافة خطط الدولة وبرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع، وفى يوليو من ذات العام 2016، أعلنت ولاية ماديا براديش في الهند عن إنشاء أول وزارة للسعادة، وكان الغرض الوحيد للوزارة الجديدة هو تتبع النمو بطريقة تستند إلى مفهوم بوتان للسعادة الوطنية الإجمالية.
ولهذا، لم يعد من الطبيعي أن تكون السعادة موضوعًا لكل العلوم في عصرنا الحاضر باعتبارها غاية لكل مجتمع وهدفًا لكل سلطة، ولا تكون كذلك في الفكر القانوني. لذلك لم تتأخر كثيرًا السلطات التأسيسية في العديد من الدول في النص عليها ضمن نصوص إعلانات حقوق الانسان أو الاستقلال، وكذلك ضمن النصوص الأعلى قيمة في تشريعاتها الداخلية (الدساتير)، كما أصبحت السعادة موضوعًا لقوانين داخلية تفرد لها مكانا وتفرض لها أهمية.
فمن المصدر التاريخي الأول وهو إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية 1776 الذي يستحضر “البحث عن السعادة” كحق، وانتهاء بتشريعات محلية حديثة صدرت في عام 2020 في دولة الامارات العربية المتحدة، كانت السعادة تخط خطوطها في كل هذه النصوص لتستقي منها شرعية وجودها في المجال القانوني، وتهيل التراب على فكر دام لقرون عديدة يدعى أن السعادة هي فقط أمر داخلي نفسي، وتهيئ لفكر تنويري جديد يرى أن السعادة هي عمل الدولة بقدر ما هي عمل الفرد.
وبين هذا وذاك، كانت الإعلانات والدساتير تشمر عن ساعدها، وتتبارى في إدراج السعادة ضمن نصوصها، وإن تباينت فيما بينها في تحديد طبيعة تلك السعادة والهدف من النص عليها. فجاءت إعلانات الحقوق الفرنسية (على الأقل تلك الصادرة في 26 أغسطس 1789 و24 يونيو 1793) ترسم من السعادة هدفا للمجتمع، ثم توالت دساتير بعض الدول التي وضعت ضمن موادها حقا جديدا يسمى الحق في السعادة، ووصولا الى ديباجة الدستور المصري لعام 2014 التي تجعل من الوطن ــــ بطريقة إيحائية للغاية ــــ “مكان السعادة التي يتقاسمها جميع أبنائه”.
وفى الحقيقة، فإن هذا التنوع في المصادر القانونية للسعادة بين مصادر ذات طبيعة تاريخية عالمية، ومصادر داخلية ــــ دستورية أو أقل من دستورية ـــــ يحمل في طياته التفاؤل بأن الاتجاه القانوني الدولي يسير في طريق اعتبار السعادة هدفًا عالميا ينبغي أن تتمتع به كافة الشعوب.
([1]) سورة الحجر (29).