من حق الدكتور أحمد زايد – المدير الجديد لمكتبة الإسكندرية – أن أعبر له عن تفاؤلي بالمرحلة الجديدة من عمر المكتبة.
تحدثت – من قبل – عن الإسكندرية: لماذا لا تعود – كما كانت – عاصمة ثقافية للبلاد؟
الأسباب – كما أشرت – متعددة، بعضها يعود إلى مؤسسات رسمية، وبعضها الآخر مبعثه تقاعس مثقفي المدينة عن تلقي الراية في سباق التتابع، أعنى استكمال ما بدأته الأجيال السابقة في المجالات المختلفة. أذكر – على سبيل المثال – عبد الله النديم وسلامة حجازي وسيد درويش وبيرم التونسي ومحمد ناجى ومحمود سعيد ويوسف الجزايرلي وعبد اللطيف النشار ونبوية موسى وأحمد السمرة وأدهم وسيف وانلي ومحمد زكى العشماوى ويوسف شاهين وعشرات غيرهم نشأوا في حوارى الإسكندرية وأزقتها، وتعلموا في مدارسها ومعاهدها، ثم أضافوا إلى الإبداع العربي، والثقافة العربية، رسموا – بأقلامهم ولوحاتهم وموسيقاهم وعروضهم الفنية – بانورامية المشهد الثقافى السكندرى، واستحقت الإسكندرية صفة العاصمة الثقافية.
من الصعب أن أحدد المسئولية في مبدعي ونقاد ومثقفي المدينة. أشير إلى النسبة الكبيرة التي يحظون بها في عضوية اتحاد كتاب مصر، إنها دليل لا تخطئه العين، على ما تمثله الإسكندرية في خريطة الثقافة المصرية.
لعلى أجد في إعادة إحياء مكتبة الإسكندرية القديم مؤشرًا لصورة المستقبل الثقافي لمدينتنا الجميلة، بالإضافة إلى دور المكتبة في استعادة الإسكندرية لمكانتها القديمة عاصمة ثقافية للعالم، وهو ما ينبغى أن يتحقق بتلاحم المكتبة والهيئات الثقافية الحكومية والأهلية في المدينة، لإعادة رسم الملامح الغائبة بفعل الإهمال، والاقتصار على المركزية القاهرية.
لن تكون مكتبة الإسكندرية نقطة جذب عالمية. إذا اقتصر الأمر على مجرد مبنى المكتبة، فمن المهم أن يكون المبنى جزءًا من نشاط يجد تكامله في العديد من الهيئات والمؤسسات الثقافية.
نحن نقدر الدور الذى نتوقعه من المكتبة فى الحياة الثقافية العالمية، لكن من الصعب أن تعود الإسكندرية إلى صورتها القديمة كعاصمة ثقافية عالمية بالمكتبة فحسب، الأهم أن تتعرف الوفود الزائرة من دول العالم إلى بانوراما الحياة الثقافية في الإسكندرية جميعًا، وليس إلى المكتبة وحدها.
المكتبة ملمح أهم، ينبغي أن يتسق مع بقية الملامح التي تمثلها المؤسسات الثقافية الأخرى.
هذه المؤسسات تتمثل – بالإضافة إلى المكتبة – فى الجامعة، وهيئة الفنون والآداب، وهيئة تنشيط السياحة، والصحف، والتليفزيون، والإذاعة، وقصور الثقافة، ودور السينما، والمسارح، فضلًا عن الطاقات المبدعة ممثلة في أكثر من ثلاثمائة أديب وشاعر وناقد أعضاء في اتحاد الكتاب، وفي الكثير من الموسيقيين والفنانين التشكيليين والعلماء. لكل هذه المؤسسات – منفردة ومجتمعة – دورهنا الذي يصعب إنكاره فى إثراء الحياة الثقافية بالإسكندرية. ربما جاوز التأثير حدود المحافظة، لكنه – فى كل الأحوال – يظل قاصرًا، أو دون ما نتطلع إليه من دور فاعل ومؤثر، يعيد للإسكندرية مكانتها القديمة.
لا أطلب للمدينة دورًا ليس موجودًا، إنما أطلب التواصل مع دور كان قائمًا، ومتواصلًا. منذ العهد الهيليني. كان للإسكندرية مدرستها التي أثرت في ثقافة العالم القديم، وفي التاريخ المعاصر، فإن معظم الأنشطة الإبداعية والثقافية المصرية وجدت الريادة في الإسكندرية.
أنشئت مكتبة الإسكندرية استمرارًا لمكتبة الإسكندرية القديمة التي جعلت المدينة عاصمة ثقافية للعالم كله، فاختيار الاسم ضرورة وليس مصادفة. وكانت إسهامات الدول والهيئات العالمية في تمويل المشروع حتى اكتماله، بهدف أن تؤدي المكتبة الدور نفسه الذي كانت تؤديه المكتبة القديمة. لا يعنينا – الآن – من فكر، وخطط، ودعا إلى التمويل، بل ولا حتى من شمل المشروع برعايته، بقدر ما يعنينا اكتمال المشروع، لتستعيد المكتبة مكانتها القديمة، وتصبح منارة حقيقية للمعرفة.
توقعنا أن تضيف المكتبة إلى الحياة الثقافية، وظهرت بوادر إيجابية عديدة، ليس فى الإسكندرية وحدها، وإنما على مستوى الثقافة العالمية. لكنها تحولت – شيئًا فشيئًا – إلى “وسية ” أفراد من مسئولى المكتبة، رغم لجانها المتعددة، التى تشمل كل الأنشطة، اقتصرت على المناقشات دون أن تجاوزها إلى محاولة الفعل.
لعلى أجد فى القيادة الجديدة لمكتبة الإسكندرية، ما يؤهلها للقيام بدور لا يقل عما تؤديه مكتبة الكونجرس الأمريكى، ومركز بومبيدو بالعاصمة الفرنسية.
هذا هو المعنى العالمي للمكتبة. أما الاقتصار على بعض الأنشطة الوقتية، أو الطارئة، والتى توضع بلا استراتيجية محددة، فهو يقلل من الدور الذى نأمل لمكتبة الإسكندرية أن تؤديه.
مكتبة الإسكندرية إنجاز ثقافى مهم، تماماً مثل كل الإنجازات الكبرى فى الحياة المصرية، بداية من أهرامات الفراعنة، واستمرارًا فى معطيات الثقافات الهيلينية والقبطية والعربية الإسلامية، إلى أيامنا الحالية. من الصعب أن ننسبها إلى شخص بذاته، ولا جماعة معينة، حتى الأهرامات التى نعرف من دعا إلى إقامتها، نهمل الأسماء، ونتذكر فحسب أن الأهرامات و”أبو الهول” وأهرامات سقارة ومعابد الكرنك وغيرها من الآثار الفرعونية، هى إنجاز مصري، جعل للحضارة المصرية موقعها المتقدم بين الحضارات العالمية. الأمر نفسه ينطبق – بالضرورة – على معالم مهمة في تاريخ هذا الوطن.
إنها الإنجاز الثقافى المصرى الأهم منذ افتتاح الجامعة المصرية، علينا أن نرعى مكانتها، ونتيح لها إمكانات التواصل والانفتاح على الثقافات العالمية.
إذا كانت مكتبة الإسكندرية القديمة قد جعلت مدينة الإٍسكندرية عاصمة ثقافية للعالم القديم ، فإن تصورنا لمكتبة الإسكندرية أنها تعيد للإسكندرية ذلك الدور الذى طال غيابه، فتصبح عاصمة ثقافية للعالم الحديث ..
نحن نتحدث عن التحدى الثقافى. وفى تقديرنا أن مكتبة الإسكندرية – مع مؤسساتنا التعليمية والثقافية – تمثل الأدوات الحقيقية لذلك التحدى. بل إن المكتبة ـ تحديدًا – يجب أن تكون هي الواجهة للمعركة الحضارية التي نخوضها في مواجهة أخطر عدوان يتهدد الوجود العربي، وليس مجرد أرضه وثقافته.
النظرة إلى الدور الحقيقي للمكتبة يجب أن تتحدد فى أبعاد حضارية، وليس فى مجرد خدمات ثقافية، مهما سعت إلى التكامل.
إنها ليست خزانة للكتب، ولا هي قاعات فاخرة مهيأة للاطلاع، ولا هي إمكانية طيبة للمؤتمرات والمحاضرات والندوات. النظرة الاستراتيجية تتجاوز ذلك كله، وتضع المكتبة في الحجم الذي نأمله لها.
وعلى سبيل المثال ، فإن المكتبة يجب أن تعمل بنظرة استشرافية، وتحقق تواصلًا إيجابيًا مع كل مراكز الثقافة والإعلام فى العالم: الجامعات ومراكز الأبحاث والهيئات العلمية والمؤسسات الصحفية واتحادات الكتاب، بل والكتاب ذوى المكانة العالمية.. ومن المهم كذلك أن يتوزع مراسلوها فى كل أنحاء العالم . شرط اختيارهم هو الكفاءة العلمية والمكانة الأدبية، وليس الصداقة والإعجاب الشخصي.
بالإضافة إلى ذلك، فأنا لا أتصور أن يقتصر المكتب الإعلامي بالمكتبة – إن كان لها مكتب إعلامى! – على مجرد الاتصال بوسائل الإعلام المصرية. إن مكتبة الكونجرس على اتصال متواصل ومتجدد بكل وسائل الإعلام في العالم، فضلًا عن المؤسسات الجامعية والثقافية ومراكز الرأي العام.
المظهريات والفرقعة الإعلامية وإهمال الاستراتيجية، خطر يهدد أي مشروع يحرص على الجدية. ومكتبة الإسكندرية هي الإنجاز الأهم الذى نخصه باحتمالات إيجابية كثيرة للمستقبل. إنها التعبير عن ملامسة أحدث معطيات العصر ومنجزاته، بما يهب بلادنا فرصة حقيقية في مجاوزة التخلف، ويضعنا في طريق اللحاق بالتقدم الذي يمضى فيه الآخرون بخطوات واثقة، وسريعة.
بتعبير آخر، فإن مكتبة الإسكندرية يجب أن تكون المثل للعمل الثقافى. التخطيط والجدية والموضوعية، والتعبير عن تواصل الحضارة المصرية، وعن انتماء مصر – بفعالية – إلى العالم المتقدم، وإلى المستقبل.
وهنا أشير إلى فعالية أخري، مهمة، أرجو أن تعني بها المكتبة:
المكتبة هي التعبير عن المكانة الحضارية المتقدمة التي تعمل بلادنا لاستعادتها، وإسهامات المكتبة فى الثقافة العالمية – كما أشرت من قبل – يجب ألا تقتصر على خزائن الكتب والمخطوطات والوثائق النادرة، ولا على قاعات الاطلاع، ولا حتى على المؤتمرات والمهرجانات والندوات وغيرها من مظاهر النشاط الثقافي.
إن رعاية مصر الدولة لمبدعيها تتمثل في جوائز مبارك والتقديرية والتفوق والتشجيعية. وهي أوسمة ينالها الفائزون بها من المبدعين والدارسين والمفكرين، بالإضافة إلى الأوسمة الحقيقية التي ترافق الحصول على الجوائز.
ثمة جوائز عربية لا يقتصر الفوز بها على البلد الذي تنتسب إليه، إنما هي تأخذ صفة القومية كما في العويس والبابطين وحسن فقي وغيرها، أو تأخذ صفة العالمية كما فى الملك فيصل. والجائزة الأخيرة – تحديدًا- هى بعض الدور الذى نأمل أن تؤديه مكتبة الإسكندرية.
الجائزة العالمية تجاوز المحيطين المصري والعربي إلى المحيط العالمي. تحصل عليها إنجازات إبداعية على مستوى الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والتطبيقية، فلا تقتصر على مبدعي البلد الي تصدر عنه، وإنما تحتفى بكل المبدعين بصرف النظر عن الوطن الذي ينتمون إليه. القيمة وحدها هي جسر الحصول على الجائزة.
مع تقديرنا لجوائز عالمية مثل نوبل وجونكور واتحاد الناشرين البريطانيين وغيرها، فإن جائزة مكتبة الإسكندرية – وليكن هذا هو اسمها – يجب أن تصبح مثلًا للتجرد والموضوعية، بحيث ينالها من يستحقونها بالفعل، وليس لبواعث سياسية مشبوهة، كما أكدت نوبل ذلك – للأسف – فى أعوام كثيرة. ولنتذكر أنها ذهبت إلى بعض الأسماء التى كان يجب أن تواجه محاكم مجرمي الحرب، مثل بيجين وبيريز، بدلًا من الحصول على جائزة نوبل للسلام. كما ذهبت إلى بعض الأسماء التي لا يعرفها أحد مثل ذلك الأديب اليهودي المجري الذي حصل عليها هذا العام، وكما نالها في أعوام سابقة أدباء يهود لا يتميزون إلا بميولهم العنصرية، ومنهم ـ كما نذكر ـ أديب لا يزيد عدد من يقرءون باللغة التي يكتب بها عن ألفين!
جائزة مكتبة الإسكندرية – بما نوفره لها من لجنة تحكيم على مستوى عالمى، وبالمبادئ الموضوعية الثابتة التي تعمل في ضوئها – تستطيع أن تحصل على مكانة متفوقة بين الجوائز العالمية، بعيدًا عن تأثيرات الإعلام، وشبهات المصالح السياسية.
لا أخفى – أعترف – أنى أتطلع إلى نجاح المكتبة لعاملين: أولهما انتمائي إلى الإسكندرية التي إن فرضت ظروف العمل أن أحيا بعيدًا عنها، فإنها تحيا فى داخلي. والعامل الثاني هو انتمائي إلى قبيلة المثقفين الذين يتطلعون إلى دور أكثر فعالية للثقافة العربية، من حيث التأثر والتأثير في ثقافة العالم.