بقلم د / أحمد سعد جريو
التنظيم الاجتماعي في ريف صعيد مصر قائم على فكرة العصبية، فالطفل يتعلم أن ارتفاع شأنه في الحياة قائم على الدفاع عن أرضه وعرضه وماله وكرامته، وأن أي إهانة يتعرض لها تجعله يعيش في قلق وتوتر، ويستمر هذا القلق إلى أن يسترد كرامته التي أهينت، وأن الحل في استرداد كرامته ليس حلاً فرديا طالما أن هناك آخرين من جماعته القرابية يشاركونه نفس المشكلة، ومن خلال التفاعلات فيما بينهم يرفضون الدين والقانون ومن هنا تبدو مشروعية الثقافة الثأرية بالنسبة لهم، وهم كجماعة يدركون أنهم أكثر قدرة على مواجهة الجهود المبذولة ضدهم من جانب أجهزة الضبط الاجتماعي، ويؤدى التزامهم بمثل هذه المعايير إلى خلق مشاكل لهم أمام مجتمعهم قد تصل إلى حد إعدامهم .
إن الفرد أثناء التنشئة الاجتماعية يستدخل معايير وقيم واتجاهات الجماعة حتى تصبح جزءا من ذاته، مما ينعكس على سلوكه وتصرفاته وآرائه وأفكاره حنى تتوافق مع آراء وفكر أعضاء جماعته، لتكون رأيا عاما يعبر عن الجماعة، وعندما يتوحد هذا الرأي يصبح قوة ضغط اجتماعية على أفراد الجماعة بحيث ينصاعون له.
وأن الثقافة الثأرية في المجتمعات الثأرية، تمثل جزء من ذات الفرد تنعكس في سلوكه وتصرفاته وآراءه مع الآخرين سواء داخل المجتمع الثأري، أو المجتمعات المحيطة به، وهذه الثقافة تغرس فيه منذ تنشئته الأولى.
وللوالِدَيْنِ في إطارِ الأسرة أساليبُ خاصة من القيم والسلوكِ تجَاهَ أبنائهم في المناسباتِ المختلفةِ، ولهذا فإن انحرافاتِ الأسرةِ من أخطرِ الأمورِ التِي تُوَلِّدُ انحرافَ الأبناءِ.
فالتوجيهُ القيمي يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولاً، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع. فالأسرةُ هي التي تُكْسِبُ الطفلَ قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحقَ والبَاطلَ، والخيرَ والشرَ، وَهو يَتلَّقَى هذه القيمِ دونَ مناقشةٍ في سِنيهِ الأولى، حيث تتحددُ عناصرُ شخصيتِهِ، وتتميزُ ملامحُ هويتِهِ على سلوكه وأخلاقه؛ لذلك فإن مسؤولية عائلَ الأسرةِ في تعليمِ أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس.،قال ـــ صلى الله عليه وسلم ــ: “ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه -رضوان الله عليهم-:” ارجعوا إلى أهلِيكُم فأقيمُوا فيهم وَعَلِّمُوهم.
ومن المعايشة لطبيعة البيئات الثأرية في محافظات جنوب الصعيد، نجد أن الأسرة تقوم بغرس القيم السلبية الثأرية في نفوس أبنائها، حيث أن قيمة الفرد لا تتحقق في المجتمع الا بتلبية نداء الثأر، الذى يدعو إلى سفك دم القاتل بيد ولى الدم، لا بيد الحاكم الذى هو ولى الأمر، وأنه من العار ترك الأمر للقضاء، ولا يلجأ الفرد إلى التصالح إلا بعد الأخذ بثأره. مما يؤكد انحراف دور الأسرة في تربية أبناءها على القيم الإيجابية نتيجة الثقافة الدموية التي يكتسبها الفرد من مجتمعه الثأري.
دور المرأة في الثأر:
تقف المرأة في القضايا الثأرية على طرفي السكين، فهي التي يتم رفع السلاح من أجل الحفاظ على عرضها وسيرتها، هي أيضا العنصر الرئيسي في التحريض على الأخذ بثأر عائلتها، ويتخذ هذا التحريض عدة أشكال منها ما هو مباشر وعلني- حيث تصر المرأة على تذكير أبناء عائلتها بدم رجلهم المهدر كلما سنحت فرصة- أو بطريق غير مباشر- عن طريق ارتدائها الملابس السوداء والعقود الزرقاء المعروفة “بعقد الحزون”، والتعديد من حين لآخر، وقد يتخذ تحريضها شكلاً آخر أكثر صعوبة على نفوس أبنائها بأن تشم ما بين ليلة وأخرى رائحة دم القتيل التي تظل عالقة بثيابه التي تحتفظ به الزوجة أو الأم أو الأخت حتى يتم أخذ ثأره.
وعلى الرغم من التغيرات التي حدثت في صعيد مصر بصفة عامة وعلى المرأة بصفة خاصة من أول ارتداء البردة واستبدالها بأحدث صيحات الأزياء لدى فتيات الصعيد والتحاقهن بالجامعات والمعاهد، إلا أن دور المرأة في التحريض على الثأر يظل الأقوى، فقد يتصور البعض أن الرجال في الصعيد يلعبون دورًا في تعليم أولادهم لغة الثأر، لكن الحقيقة غير ذلك، فالابن عادة لا يكون في حاجة لأن يتعلم من أبيه تعاليم الثأر، فالأجواء التي ينمو فيها هذا الابن تتردد فيها بصفة دائمة أصداء الثأر، فالمناخ في هذه المنطقة ملبد بكلمة الثأر، والأب عموما لا وقت لديه لأن يجلس مع الصغار ليغذيهم بمفهوم الثأر، وبالتالي تصبح هذه المهمة ملقاة على عاتق الأم
ليس هذا فحسب، بل أن الأم في صعيد مصر إذا كانت بلا زوج أو ابن تقتل بيدها ابنتها التي حملت سفاحا لتغسل عارها ولا تقبل في ذلك نقاشا، فشرف الأسرة أهم لديها من عاطفة الأمومة، أما إذا كان القتيل ابنها أو زوجها أو أخاها فإن الحياة تتوقف بها وتظل صورة القتيل في وجدانها وفى خاطرها بعكس الرجل الذي يأخذ الأمر بعقله أكثر من عاطفته، وتظل تعانى الألم والحزن سنوات طويلة حتى يتحقق لها ما تريد لأنها نفذت العرف وطبقت التقاليد، وهذا يعنى أن المرأة في صعيد مصر تتعامل مع الثأر بقلبها ووجدانها.
ورغم أن المرأة على مدار العصور، لم تكن هدفاً في عمليات الثأر، لكنها تلعب دور الحارس على تلك التقاليد، وعلى رأسها الثأر، فالمرأة تكاد توهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدراً، وتتصدى لأي محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من “الدم” وكثيراً ما تقدم على ” حلق شعرها ” بالكامل، وهي تستحث الرجال على أخذ الثأر.
ولم يقف دور المرأة في صعيد مصر، عند التحريض فقط، بل انها في بعض الأحيان تحمل السلاح وهو ما حدث بالفعل في إحدى قرى محافظة قنا، حيث أقسمت امرأة تدعى ” ليلى ” على الثأر لأخوتها الثلاثة الذين قتلوا غدراً، خاصة أن أبنائها وأبناء اخوتها مازالوا أطفالاً، وحلقت شعرها وارتدت ملابس الرجال، وحملت مدفعاً رشاشاً وانتقلت للإقامة في الكهوف ووسط زراعات القصب، وظلت تراقب أعداءها سنوات طويلة حتى علمت أن قاتلي اخواتها يستقلون سيارة ميكروباص لتأدية واجب العزاء بإحدى القرى، فانتظرتهم عند مدخل القرية وأوقفت السيارة وطلبت من السائق النزول لأنه ليس من نفس العائلة، وحصدت 12 شخصاً من خصومها.
كما أن المرأة تلعب دور هام في الحفاظ على الموروث الثأري من خلال حفظ الأمثال الشعبية، وتلقينها لأبنائها وغرسها للعمل بما تدعوا إليه.
وقد أكدت إحدى الدراسات أن أحد أسباب اندلاع حوادث الثأر وانتشارها وتأثيرها في المجتمع المصري، يرجع إلى المرأة على الرغم أن المرأة في الصعيد المصري مقهورة وبلا رأي، كما هو سائد، وأنها تلعب دوراً بارزاً في صناعة القرار داخل العائلة. ومعظم الدراسات التي بحثت في هذه المشكلة لم تبرئ المرأة، بل وصفتها بأنها المحرض الرئيس على كل جرائم الثأر. فالمرأة اذا قُتل زوجها لا ترضى من ابنها الا بقتل من قتلوه وتتوانى عن التحريض حتى وإن كان القاتل أقرب الناس فقد أشارت الدراسات التي قام بها مركز قضايا المرأة المصرية الى أن تلك الجرائم تتفاوت من محافظة إلى أخرى. فهي أكثر وضوحاً في أسيوط وأقل حدة في سوهاج وتظهر وتختفي في محافظات أخرى. وترتفع نسبة جرائم القتل بين الشباب في الصعيد بنسبة 2،23 في المئة، بحسب ما ورد في دراسات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إليها. ولجرائم الثأر في الصعيد ضوابط، إذ لا يؤخذ بالثأر من طفل أو امرأة، علماً أن المرأة نفسها أخذت بالثأر كثيرا.
التنشئة الاجتماعية واكتساب ثقافة الثأر: ــ
التنشئة الاجتماعية هي تلك العملية التي يعد من خلالها الطفل ليأخذ مكانه في الجماعة التي نشأ فيها.
ونجد في البيئات المنتشر فيها الثأر في صعيد مصر، أن الطفل منذ نعومة أظافره ينشئه أبوه وترضعه أمه فكرة تقديس الثأر، ويتشرب تقاليده وعادته من المجتمع المحيط به، مما تجعله يكتسب قوة تفوق قوة القوانين دون اخضاعه للتفكير أو المناقشة.
ويرى (وليم كينيكل) أن التنشئة الاجتماعية هي عملية تربية في معناها الواسع، فهي تشمل كل نتائج عملية التعلم التي يتلقاها الفرد من الآخرين سواء حدث هذا التعلم بشكل رسمي أم بشكل غير رسمي.
و أن البيئة تشارك مشاركة فعالة في تكوين القانون الخلقي للفرد وهو شيء قد يطابق إلى حد ما يطلق عليه تعبير ” الأنا الأعلى ” في مدرسة التحليل النفسي، وذلك لأن كل بيئة من البيئات تضع معايير محددة واضحة، تكاد ترتفع إلى درجة التقديس لتنظيم العلاقات، والسلوك بين افرادها، وتستخدم وسيلة الضغوط الاجتماعية العالية التي تبذلها من أجل أن تسوس أعضاءها، وفى أثناء مزاولة هذه الضغوط يكون الفرد مجموعة من الاتجاهات والمعايير والمعتقدات تكون هي الأساس في تكوين ضميره الاجتماعي .
وهكذا يصبح الثأر جزءا من الضمير الاجتماعي لأبناء هذه المناطق، لذلك نجدهم ينظرون للشخص الذى يثأر لنفسه ولو بأتباع أخس الوسائل وأحط الأساليب بطل من الأبطال لا يرتكب في نظرهم جرما، وإنما يسترد حقا مسلوبا، ويغسل شرفا مسلوبا بل أن بعضهم يبادر عقب ارتكابه الجريمة إلى الاعتراف بفعلته مباهيا مفاخرا.
ويمكن القول أن للثقافة الثأرية تأثيرات وانعكاسات ضارة على الفرد والمجتمع، وأنها تعد من المعوقات الاساسية التي تقف أمام تقدم المجتمع ورقيه، وبالتالي تقف عائق أمام تحقيق التنمية المستدامة ببعض قرى محافظات جنوب الصعيد ذات الثقافة الثأرية.
تأثير الثقافة الثأرية على التنمية:-
لقد أكدت معظم الدراسات الاجتماعية أن الثأر أصبح يمثل عائقا أمام تحقيق التنمية والتقدم، وأمام خطط الدولة التنموية التي تسعى لتنفيذها في القرى ذات الطابع الثأري، كما أنه من الظواهر التي تسبب قلقا واسعا للسلطات الأمنية والسياسية.
ومن الآثار السلبية لثقافة الثأر التي تؤثر على التنمية ما يلى:-
1 ــ توقف المشروعات التنموية التي من شأنها تحسين المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي ارتفاع معدلات الفقر.
2 ــ حرمان ابناء عائلات الصراع الثأري من التعليم.
3 ــ يصبح المجتمع الذى تكثر فيه الصراعات الثأرية سوقا رائجا لتجارة السلاح.
4 ــ استمرار العداوة وتوارثها عبر الأجيال وإشعال نيران الفتنة باستمرار واستنزاف الموارد المادية والبشرية مما يؤدى إلى ارتفاع معدل الأرامل واليتامى.
5 ــ انتشار حالة الخوف وعدم الاستقرار لدى أفراد المجتمع، والمجتمعات المحيطة.
ومن معوقات التنمية في قرى الخصومات الثأرية:-
1 ــ عدم وعى السيدات بأهمية التعليم وذلك ايمانا أن المرأة خلقت للمنزل فقط وليس لخارجه
2 ــ العادات والتقاليد الغير جيده المتأصلة مثل عدم خروج الفتيات عند بعض العائلات للتعليم أو العمل، وهذا بالفعل يؤثر على التنمية في تعطيل قوة لا يستهان بها وتركيزها في العمل المنزلي فقط.
3 ــ انتشار زراعة المخدرات في أراضي معظم القرى ذات الطابع الثأري.
4 ــ التفكك المجتمعي بسبب الخصومات الثأرية وصعوبة تنفيذ مجموعات عمل تطوعية لخدمة البيئة.
ومن ابرز الآثار السلبية لثقافة الثأر وذلك من خلال المعايشة والملاحظة في قرى الثأر على المرأة الآتى : ــ
1ــ تحمل المرأة الأعباء الاقتصادية للأسرة حيث أن الرجل في حالة الثأر إما هاربا من القتل أو متفرغا للتربص لأخذ الثأر ، فتقوم بتدابير إطعام أبناءها وتعليمهم .
2 ـ وقف مراسم الزواج للفتيات المقبلات على الزواج حتى الانتهاء من الخصومة الثأرية .
3 ـ تسرب التلاميذ من المدرسة خاصة من المرحلة الإعدادية لمساندة الأم في أعباءها الأسرية .
3 ــ تعرض المرأة للمخاطر خلال الاتصال والتواصل مع الجانى أو صاحب الدم طرفها ، حيث أنها المنوطة بتوصيل الاحتياجات الأساسية للهارب أو المتربص طرفها .
4 ــ تعرض المرأة للاحتجاز لعدة أيام كوسيلة ضغط للوصول إلى الشخص المطلوب طرفها .
5 ــ حرمان المرأة من حقوقها في التنقل والسفر خارج القرية حفاظا على امنها وسلامتها من ناحية ومن ناحية اخرى لمساندة الرجل في الحصول على ثأره .
6 ـ عدم تمكين المرأة من ميراثها حتى الانتهاء من الخصومة الثأرية .
7 ـ تحمل المرأة مسئولية غرس وتنشئة أطفالها على ثقافة الآخذ بالثأر .
ويمكن القول أن:
الثأر ثقافة شفاهية لها جذور تاريخية، يساعد على نشرها عوامل بيئية، فهي غالبا ما تنتشر في المناطق ذات الطبيعة الجبلية والاقتصاد الفقير، كما أن العوامل الاجتماعية والتركيبة السكانية تسهم بقدر كبير في الاعتقاد بهذه الثقافة، بالإضافة إلى الظروف السياسية التي تعززها، وتنعكس الثقافة الثأرية إلى ممارسات عندما يصبح التعصب اسلوب حياه بين أفراد الجماعة القرابية، والعنف سمة الأشخاص، حينئذ يتم رفض الحوار وقبول الآخر المختلف معه وعنه، فيكون سفك الدماء فخرا ومفخرة بين أفراد الجماعة القرابية، وينتشر الثأر والخصومات بين الأفراد والجماعات، لأسباب غير منطقية، وقد تكون غير واقعية من صنع الخيال أو سوء الفهم , مما يترتب عليه وقف للمشروعات التنموية، وعدم رغبة المؤسسات التنموية في تنفيذ مشروعاتها بالقرى التي تنتشر بها الخصومات الثأرية خوفا من الفشل من ناحية ومن ناحية أخرى خوفا على ارواحهم وممن قد يتعرضون له من أذى سواء مباشر لأشخاصهم أو سرقة أو تلف لمعداتهم التي هي في حوزتهم وتحت مسئوليتهم. والمتتبع لأسباب القتل والثأر في المناطق المنتشر بها ثقافة الثأر يجد أن غالبية الخصومات لم يعقد أطرافها حواراً فيما بينهم احتواءً للمشكلة.
لذلك يبرز دور الحوار الهادف والتربوي واهميته بين الأفراد والجماعات باعتباره أحد الضمانات المجتمعية والتربوية للحد من الخصومات الثأرية المنتشرة بين الأفراد والجماعات في قرى محافظات جنوب الصعيد لكى تتحقق التنمية المستدامة المنشودة من الدولة لصالح الأجيال القادمة، بالإضافة إلى ضرورة اكساب المرأة ثقافة التربية على التسامح وقبول الآخر والحوار حتى ينعكس ذلك على تربيتها لأبنائها .