– أتذكرني ؟
تأملتُها طويلًا ، وأنا أحاول البحث عنها في توابيتِ ذاكرتي ، لم تكن ملامحها غريبة عني ، مؤكد أنني رأيتُها من قبل ، ربما رأيتُها وقت كنتُ في حاجة إلى من أسامره ويسامرني ، وليس بعيدًا أن كانت تربطني بها علاقة ما ، ولكن متى ؟ وأين ؟ .
– أتذكرني ؟
هل كانت معى في مرحلة ما من التعليم ؟ ، أكانت صديقة لأختي ؟ ، أم زميلة لأخي ؟ ، هل كانت جارة لنا ؟ أهى الممرضة التي رعتني في إحدى المصحات ؟ ، أم هى الطبيبة التي عالجتني ؟ .
– أتذكرني ؟
مؤكد أننا التقينا – يومًا – ولكن أين ؟ ، ربما التقينا في قطار أثناء سفر طويل ودار بيننا حوار إلى أن أتى محطها فقامت ونزلت ، وبذلك افترقنا ولم نلتق إلا عند هذا السور – الحديدي الممدود – الذي يفصل بيننا .
– أتذكرني ؟
عدتُ أتأملها ، وقد شرع الليل يحاصر المكان ، وكنتُ قد فتَّحتُ كل توابيت ذاكرتي فلم أجدها ، ولم أجد أمامي إلا إعلان عجزي :
– لا .. لا أذكرك .
تبسمتْ ضاحكة ، وضأت قسماتها طفولية بريئة ، دق قلبي ، انفرج فمي تحرك لساني ، سكتْ ، جلجلتْ ضحكاتها ، أشرق وجهها ، اهتز الليل ، تزعزعت أركانه ، هوى .
– أتعرفينني ؟
ازدادت حدة ضحكاتها :
– كمعرفتك لي !
هممتُ بترك المكان ، شيء ما منعني ، قيَّد حركتي ، فأحسست أنه لا حياة لي إلا هنا .
كان المكان قد ارتدى ثوب الظلام ، ولم تكن فتحات السور الشبكية الضيقة تسمح بملامستها ، حاولت إحداث فتحة بالسور كي أنفذ إليها ، أو لتخطو إليَّ ، أمسكتُ بكتلة صخر ، رطمتها بالسور لينفتح تطاير شرر ، رطمتُها ، تطاير شررٌ كثيف مُحْرِق ، مبتعدةً صرختْ ، تراجعتُ ، أيقنتُ أنه لا سبيل أمامنا إلا السَّير ، فسِرنا .
كنتُ أتطلع إلى ملامستها ومعانقتها ، وعلى البعد كان السور الحديدي قد اخترق سُتُر الضباب المدمَّي .
كان كل منا ينظر إلى الآخر ، أبصرتُ في عينيها ذعرًا ينشد الأمان ، ابتسمتُ أشجعها ، تبسمتْ ، شعرتُ أنني ارتبطت بها وارتبطتْ بي ، حتى لم يعد بمقدور أحدنا أن يحيا دون الآخر .
أنهكنا السير ، دعوتها للجلوس ، جثت مستندة إلى السور ، نظرت إلى أعلى ـ حيث لامس السور عنان السماء – وتمتمتْ .
قامت ، استأنفنا المسير ، لم نكن لنرى نهاية للسور ، رأيتُها ترفع يديها إلى عينيها لتحجز بسبابتها وإبهامها دموعًا تطلب الهطول .
استباح الإرهاق جسدها ، فهوت على الأرض ممددة ، جثوتُ ، تمنيتُ لو انفتح السور كي أضمها ، أجفف عرق جبينها ، تحركت شفتاها ، كانت تستأذنني لتنام ، ولم أكن أقل حاجة منها إلى النوم والراحة ، فنمت.
……..
أيقظني صوتها ـ مرتعشًا ـ يداعب أذني
ـ هيا لنكمل المسير .
– هــ .. هي ..هيَّا
تنهدتْ في أسى، ونظرت حيث امتداد السور:
– أخشي ألا تكون للسور نهاية.
– لكل شيء نهاية.
تلاشي تنهيدها وظهرت علي محيَّاها بدايات أمل:
– لعل .
حدثتُها عن نهر كان بجوار هذا السور فاض فأغرق… حدثتني عن ذاك النهر لما جف أمأت عطشًا.
حدثتها عن سمكة كبيرة وقد ابتلعت سمكة صغيرة… حدثتني عن السمكة الكبيرة وقد ابتلعتها سمكة أكبر.
حدثتها عن مبان شُيِّدتْ… حدثتني عن انفجارات دَمَّرتْ.
بُح صوتها فلم أعد أسمع لكلماتها صوتًا، وبُح صوتي فلم تعد تسمع لكلماتي صوتًا، وسادنا صمتٌ، بدأنا نُحس أن جسدينا ينعدمان وزنًا، وأن الأرض لم تعد تحملنا، وعلي البعد لاحت لنا أجسامٌ نورانية شفيفة تنير المكان بنور خافت.
لحظات وأدركت أبصارُنا نهاية السور، هللتْ، طاف تهليلها أرجاء المكان، هرولتْ طائرة، هرولتُ طائرًا، أمتار ونلتقي .. نتلامس .. نتعانق .
وكنتُ أبكي وتبكي، تُمْطِر دموعُنا … تشق أنهارًا تحت أقدامنا.
يشرق وجهها ويشرق وجهي، وينتهي السور، فيستحيل جسمها نورانيًا شفيفًا، ويستحيل جسمي نورانيًا شفيفًا، نتلاقي دون حاجز، نتلامس في شوق، نتعانق، نسبح جسمًا نورانيًا.
هكذا تلاقينا، لكنها لم تكن تدري ـ ساعة تلاقينا ـ أننا تلاقينا في المقابر.