تمثل الحقوق الاجتماعية في مجملها، “تلك الحقوق التي تهدف إلى تحقيق التضامن والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وتوفير إمكانيات متكافئة للتقدم الاجتماعي”، وقد ساعدت نهاية الحرب الباردة في تغيير الخطاب حول هذه الحقوق، فقد أصبح النص عليها في الدساتير، جزء من توجه عام يصر منذ إسقاط جدار برلين على الطابع الحتمي لقيم “سيادة القانون والحقوق والحريات الأساسية”. وقد اكتسب القاضي ـــــــ وبلا شك ــــــــ وظيفة مركزية في نموذج سيادة القانون، باعتباره حارسًا جيدًا للحقوق والحريات.
ومما لا شك فيه، أن المعالجة القانونية للفقر مسألة متجذرة في الاستخدامات الاجتماعية للقانون، الذي يسعى منذ وقت طويل لتصحيح الواقع الاجتماعي للبؤس وعدم المساواة. وقد أشارت النصوص القانونية، ومنذ زمن طويل، إلى الحاجة إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للفرد. فعلى الصعيد الدولي، تشير كل من الفقرة (1) من المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفقرة (1) من المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى الحق في مستوى معيشي لائق. وعلى المستويات الوطنية، تشير بعض الدساتير إلى الحق في الحد الأدنى من شروط الحياة، وحتى في الولايات المتحدة، التي نصبت بينها وبين الحقوق الاجتماعية حالة من العداء، قررت بعض ولاياتها اعتماد أحكام خاصة بالفقر في دساتيرها. وهنا وهناك، تثار فكرة بناء “درع اجتماعي” لصالح أكثر الناس حرمانًا، من أجل حمايتهم من الفقر المدقع.
وبالرغم من أن النصوص التي جاءت بالحقوق الاجتماعية ضمن طياتها قد بلغت في ذلك الأمر مبلغًا مثاليًا، إلا أن إمكانية التقاضي بشأن هذه الحقوق ما زالت قضية حديثة وغير متفق عليها. وإذا كان القرن الماضي قد اتسم بتزايد الوعي بفقر العمال، وسمح كذلك بمحاولة تحديد المفاهيم، كما وُضع العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أن مسألة ضمان الحماية القضائية لهذه الحقوق لم يظهر التفكير فيها، أو البحث عنها، إلا في نهاية ذلك القرن.
وفي الوقت الذي تميل فيه مكافحة التمييز الاجتماعي إلى الارتقاء إلى مرتبة الأولويات الوطنية، لم تعد الآليات التقليدية للحماية الاجتماعية ـــــــــ بعد الآن ـــــــــ قادرة على التكيف مع التغيرات الاقتصادية، والحد من زيادة الفجوة الاجتماعية. ففي مواجهة فقر لم يعد نسبيًا، بل مطلقًا، تتنحى السياسة قليلًا، أمام اقتراحات بحلول متنوعة للغاية من أجل التعامل مع الحالات الأكثر فقرًا واحتياجًا.
فمحاربة الفقر من خلال القانون، والقضاء على الجوع من خلال حقوق الإنسان، والنضال من خلال القانون ضد تهميش الفقراء، كل ذلك يؤكد على أن مكافحة الفقر ليست مسألة سياسية فحسب، بل هي أيضًا مسألة قانونية قضائية، تتعلق بالحقوق الأساسية كالحق في الغذاء، والحق في الحد الأدنى من الدخل، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في السكن، والحق في العمل. وتشهد اليوم الأحكام القضائية الوفيرة في السنوات الأخيرة، إمكانية حماية وضمان فعاليتها من خلال المحاكم.
غير أن التمييز التقليدي بين الحقوق المدنية والسياسية من ناحية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى، قد أدى ـــــــــ في كثير من الأحيان ــــــــــ إلى حصر الحقوق الاجتماعية في فضاء من الظلم. فكثيرًا ما استند القضاة إلى خصوصية هذه الحقوق لتبرير نقص الحماية القضائية لها.
وفي الحقيقة، يجري حاليًا تطوير بنى عقائدية جديدة تعيد التفكير في عالمية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة، ويساهم الآن العديد من القضاة، الوطنيين والدوليين، من خلال أحكامهم في تعزيز إمكانية التقاضي، وإنفاذ الحقوق الاجتماعية. وما ذلك بعزيز ولا غريب، فإنه، وإن كان من الممكن ألا تنطوي إمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية على نفس آليات الحقوق المدنية والسياسية، فإن هذا لا يعني الإفلات من جميع وسائل الانتصاف القضائية، وإن كان الأمر يتطلب، في الحقيقة، قدرًا من الجرأة والإبداع من جانب الفقهاء والقضاة، للوصول إلى دولة القانون الاجتماعية.
إنه القرن الحادي والعشرين، قرن الدولة الاجتماعية، وإذا كان القرن الماضي هو قرن تعزيز سيادة القانون، في بنائه الليبرالي، فإن المسألة الاجتماعية، التي أبرزتها الأزمة الاقتصادية الدولية أكثر من أي وقت مضى، تجبرنا في القرن الحالي على إعادة التفكير في دور القاضي في مكافحة الفقر والتمييز الاجتماعي. وإذا كانت الحقوق الاجتماعية، بالمعنى المقبول، هي حقوق تضمنها النصوص الدستورية والدولية في المجال الاجتماعي، من أجل الحد من عدم المساواة في النظام الاجتماعي، فهي كذلك، إن لم تكن أدوات للتحول الاجتماعي، فعلى الأقل، إجراءات تصحيحية لليبرالية اقتصادية، وبوابة لدولة القانون الاجتماعية.