جزيرة الكنز تعد أشهر روايات المغامرات التى استهوتنا، قرأنا ملخصات عنها، أو أجزاء منها، المدهش أن فقرات من هذه الرواية جرت علي ألسنة أمهاتنا، بل حاول بعضهن أن يؤدي مشاهد من هذه الرواية. إنها للكاتب الأيرلندي المشهور روبرت لويس ستيفنسونابن، الذى بدأ الكتابة فى سن صغيرة وتوقف عنها في سن الرابعة والأربعين، بعد حياة حافلة بالرحلات والسفر والمغامرات.
هذه المغامرات والكتابات نتيجة احتكاك الغرب بالعرب بعد الحروب الصليبية، والكتابة عن الغرائب والعجائب، وأثر ترجمة ألف ليلة وليلة، وانتشار ظاهرة القرصنة بعد اكتشاف العالم الجديد.، وقد صدرت ترجمة ” جزيرة الكنز” بترجمة رائعة للكاتب محمد عبدالحافظ ناصف.
بدأ روبرت عالمه الابداعي بكتابة ” رحلة في الأقبية والأنهار” 1878، و”رحلات علي الحمار في السافان” عام 1879، والكتابان نتاج مشاهدت وخبرات وتجارب ومعايشة في المناطق الفرنسية. لم تكن المسألة، تسلية بل هي دراسة دقيقة في التاريخ والجغرافيا والعلوم الأخرى، وأحدثت – فيما بعد – أصداء مهمة في المناهج الدراسية المختلفة، وكتب أيضًا رواية “السهم الأسود”، التي تدور أحداثها في العصور الوسطى، حيث يعثر البطل علي مجموعة من المنفيين يمتلكون شركة باسم” السهم الأسود” تساعده علي إكمال مهمته في الحرب.
إن نجاح رواية ” جزيرة الكنز” لا يمكن أن ينسينا رائعته ” د. جيكل ومستر هايد” التي صارت – بنسخها المتعددة – واحدة من كلاسيكيات السينما، كما تحولت إلى معالجات درامية بالإذاعة والتليفزيون.
لم يكن روبرت لويس ستيفنسون الوحيد الذى كتب رواية المغامرات،فقد كتب هيرمان ميلفيل رائعته ” موبي ديك” المنشورة في1850، والتي تمحورت حول الصراع المستمر والمرير بين الإنسان والحوت ” موبي ديك” الذى انتزع ساق إسماعيل صائد الحيتان. وكتب أمينيد بليتون روايته الخمسة وكنز الجزيرة، وهي مجموعة من المغامرات تتم في غواصة . كما كتب دانيل ديفو مغامرات روبنسون كروزو، واشتهر جوناثان سويفت بروايته “رحلات جاليفر”، ولا ننسى رواية “الكنز” للكاتبة سلمى لاجروف الصادرة عام 1904، وعشرات غيرها من روايات المغامرات التى كان القراء في أوروبا والعالم الجديد يتلهفهون علي قراءتها مسلسلة في الصحف، ثم يقتنونها مطبوعة في كتب. وقد استثمرت السينما نجاح هذا اللون من الكتابة وقدمته للمشاهدين، كما حدث مع مغامرات “هارى بوتر” ك.ج رولينجالتي” اعتمدت علي الخيال، والخيال العلمى، وثمة أصداء من حكايات ألف ليلة وليلة.
ارتحل سيتفنسون من موطنه إلي سواحل انجلترا وأمريكا واسكتلندا وجنوب فرنسا ومنتجع دافوس بسويسرا وجزر المحيط الهادى. كل تلك الرحلات وما نتج عنها من معايشة لبيئات جغرافية متنوعة، ومخالطة أجناس مختلفة من البشر، فحمل حصيلة معرفية وخبرات إنسانية، مكنته من التعامل مع البشر، وتحليل النفس البشرية، والوقوف علي دوافعها، وردود أفعالها، ونوازعها، إنها حصيلة ضخمة، اكتسبها وتعلمها رغم صغر سنه، وهو ما ساعده في كتابة مغايرة، تواصلت حتى الآن.
جاءت فكرة الرواية عندما كان سيتفنسون يلعب مع ابن زوجته ” لون أوزبورن”. نشرها منجمة في مجلة للأطفال، ثم تحولت إلي كتاب، يستعيد قصص القراصنة التي كادت تختفي في فترة ظهور الرواية.
يتخير الكاتب صبيًا، بطلًا لروايته، الطفل لم يبرح فندق والده الموجود في منطقة شبه نائية، لا يقطنها إلا عدد قليل من البشر، ومن حين لأخر يفد إليها بعض القراصنة، المنهزمين أو الباحثين عن المال والمغامرة. سيكون فندق ” الادميرال بنبو ” هو المنطلق لمغامرة الطفل الذى صار بطلًا لهذه الرواية الشائقة والمدهشة ( 268 صفحة من القطع الكبير )، ويؤكد محمد عبد الحافظ ناصف – مترجم الرواية – أنها الترجمة الكاملة باللغة العربية، فقد ظهرت ملخصات للرواية وطبعات أخرى اختصرت فصولًا منها.
قسمت الرواية إلي ستة أجزاء، الأول بعنوان “القرصان العجوز”، والجزء الثاني “طباخ البح”، بينما اختار المترجم للفصل الثالث عنوان “مغامرة الشاطىء”، وسمى الجزء الرابع “الحصن”، وعنون الجزء الخامس بـ ” مغامرتى البحرية ” . تسير في خط أفقى للسرد، فنضيف هذه الطبعة العربية إلي مئات الطبعات التى نشرت في جميع أنحاء العالم، إلى جانب خريطة تبين موقع جزيرة الكنز، ومسيرة الرحلة ، ومشاهد من أفلام ، تصور مواقف مفصلية في الرواية، وتبرز ملامح الشخصيات الظاهرية.
يروى الصبى ” جيم هاوكنز ” ابن صاحب الفندق الوحيد الذى يعيش مع والدته، ويقع علي خليج، أن الفندق كان مقصدًا لمثل هؤلاء البحارة الناجين، أو القراصنة الناجين من مغامراتهم المهلكة، بحثًا عن الثراء السريع.
في الحانة، أو الفندق، أو النزل المنعزل، تبدأ رواية ” جزيرة الكنز”. تتوتر الأجواء حينما يموت الأب، ويؤول الأمر إلي الأم وهذا الصبى الصغير، يشعر القراء بالمأزق الذى سيعانيه الصبى وأمه في وجود القرصان غريب الأطوار الذى جاء من رحلة لم يصب منها إلا الخيبة، إنه واحد من قلة أفلتوا من القتل، بيلى بونز الرجل غريب الأطوار الذي يثير حوله فوضى عارمة، ويعيش كشخص مهدد من رجل أعمى سيأتي بحثًا عنه لا محالة، يتورط الصبي حينما يقبل لرشوة صغيرة كي يخبر ” بيلى بونز” بقدوم الأعمى، الغريب أن بيلى يموت رعبًا من القادم الذى ينتظره، هنا تبرز شجاعة الأم التي تبحث في ملابس القرصان وأمتعته، لتعرف حكايته، ثم ترحل مع ابنها لأقرب قرية طلبًا للمساعدة ، سينهي دور الأم، فنحن في عالم ذكورى لا وجود للمرأة فيه، لكن الصبى يتذكر أمه وحنانها كلما تعرض لمأزق في طريق وصوله إلى” جزيرة الكنز” .
الرواية – بالطبع – تصور عالم القراصنة الأشقياء والقتلة، لكنها لا تغفل الإرث الفولكلوري من عادات ومعتقدات وملابس وعبارات وأغنيات البحر، وكيف يعيش هؤلاء الأشقياء في عرض البحر، وكيف يواجهون الموت غرقًا، وتقسيم العمل بينهم، والتراتب الاجتماعي الذى يحكم كل من علي المركب، وعلاقة ربان السفينة بكل فرد علي المركب، والصفات الجسدية والنفسية للقبطان، والقيم التى يفرضها البحر علي الجميع، وقبل كل ذلك الطمع في الثراء السريع بالحصول علي الكنز دون الآخرين.
كما هو الحال في السرد القصصي عمومًا، فقد كان علي الصبى أن يستعين بأناس طيبين يساعدونه، يحرص الكاتب علي رسم الشخصيات بدقة عبر الحديث عن ملامحها الجسدية والنفسية، علي لسان الراوى، أو عبر الحوارات المتبادلة بين الشخصيات، أو ردود أفعالها مع الآخرين لكشف نوازعها الداخلية، يصف فلنتفيرد تريلوني قائلًا” إنه القرصان الأكثر دموية، بلاك بيرد بالنسبة له طفل صغير، والأسبان يخافون منه بشكل مرعب وكبير، وأنا فخور أن هذا القرصان رجل إنجليزى “. هذه العبارة تقدم الشخصية للقارىء، ويضيف المترجم تعريفًا بشخصية أخرى ورد ذكرها، هى ” بلاك بيرد فيقول ” مجرم دموى وسفاح”، ونعرف أن الكثير من القراصة كانوا من الأسبان ، لأن الأسبان أول من ركبوا البحر كمغامرين، فهم مكتشفو العالم الجديد، ومعلومة أخرى وردت في العبارة أن ” القرصان ” فلنت” إنجليزى الجنسية، احترف القرصنة، من أجل المال، هذه العبارة وردت علي لسان الإقطاعي العمدة تريلوني، فالقراصنة شكلوا طبقة جديدة نافست الإقطاعيين في امتلاك المال. لقد تحول الاقطاعي إلي مغامر، يجهز سفينة بحثا عن المال: ” سوف أجهز سفينة في رصيف بريستول كي تأخذنا – أنا وأنت وجيم – مباشرة إلي هناك، وسوف أحضر هذا الكنز، حتى ولو بحثت عنه لمدة عام”. من هنا تبدأ المغامرة.
تتحول المغامرة إلي أرقام وحسابات دقيقة، فيكون فيها الاقتصاد وعلم البيئة والجفرافيا ومعرفة طبيعة البحر، وأثر المد والجزر، وموقع الجزيرة، وكيفية الوصول الآمن إليها، وأقصر الطرق وصولًا إليها، وتجنب المخاطر وسفن القراصنة الاخرين، وخطوط الملاحة، لن يتحقق النجاح لكل هذا إلا بالاختيار السليم لطاقم السفينة. وتلك مغامرة أخرى، سيمر وقت طويل قبل أن يستقل المغامرون السفينة، لكن هذا لم يمنع الصبى من الحماسة والحلم بركوب البحر وكل التوقعات الساحرة للجزر الغربية، والمغامرات القادمة.
شهدت السفينة ” هيسبنيولا” التي اشتراها العمدة مفاجآت ومؤامرات وحكايات وخطط ناجحة، وإخفاق، وخيانات، حرص الكاتب علي افساح البطولة للصبى الصغير عبر مواقف درامية، منذ أن خرج من الفندق، واكتشافه مؤامرة، وبحثه عن مكان الجزيرة، والتحقق من صحة الخريطة التى توضح موقع الكنز، ومقابلته رجل الجزيرة غريب الأطوار ” بن جن”، والحرب الدائرة بين من علي الشاطيء ومن بقي على ظهر السفينة.
جزيرة الكنز ليست عالمًا مثيرًا ومدهشًا، لكن هناك الغرائبي، وعلم الفلك، وعلوم البحار، وعلم التغذية، والخطط الحربية المحكمة، والمعلومات الطبية التي لابد أن يتسلح بها من يركب البحر لمدد طويلة، وعالم النبات والتربة، والتضاريس، والذخيرة بداية من الخناجر وحتى المدافع.
يقوم الصبى بمغامرة منفردًا، بعيدًا عن طاقم السفينة، فتحت عنوان” مغامرتي البحرية” سينضج الصبى، في هذا الجزء سيخاطب المتلقى قائلًا ” لماذا يجب أن أفعل ذلك؟ سأقول لكم، كان يبدو كذلك في البداية أنه مجرد غريزة فيَ” .
مثل الأفلام، لا بد أن يلتقي الحبيب بحبيبته، قتل الأشرار وجني الأخيار مكافأة كفاحهم الطويل، أخيرًا عثروا علي الكنز، عملات إنجليزية وفرنسية وإسبانية وبرتغالية، كانت كل أنواع العملات في العالم موجودة في هذا الكنز.
تهدأ وتيرة التوتر والقلق، ويحل المرح والانبساط، والتنزه علي شاطىء أمريكا الإسبانية، والتبضع للوازم رحلة العودة إلي الوطن، فليس من الفطنة العودة مباشرة لأرض الوطن.
يطالعنا السارد بمفاجأة مع السطور الأخيرة من الرواية، فالكنز ما زال قابعًا، ينتظر الفتى كي يخرجه، ولنغن أغنيته:
ظل واحد من طاقمها علي قيد الحياة
بينما أرسل للبحر واحدًا وسبعين رجلًا