بحروف منمقمة ينسج الأديب أحمد رفاعي آدم خيوط حبكة درامية لقصته القصيره (كلمة و رد غطاها) في سياحة أدبية جديدة في تناقضات المجتمع وأدبياته ، محاولا إجراءجراحة وجدانية بمشرط السرد الشيق، عساه أن يتخلص من دائه ومرضه العضال، نراها في السطور التالية..
كلمة ورد غطاها ( الجزء الأول)
قصة قصيرة بقلم الأديب: أحمد رفاعي آدم
————————————
أخيراً اشترى فاضل أبو شكر الله غيط التكعيبة من ولد خاله العزازي. كانت فرحته لا توصف وهو يتمشى برفقة شقيقه فوزي في الأرض ساعة العصرية. كانا يسيران في تؤدة حتى بلغا آخر الغيط والذي كان ينتهي بطوف من الطين وتكعيبة عنب كبيرة تغطي ربع قيراط تقريباً واشتُهر بها الغيط حتى أخذ اسمه منها.
جلسا على المصطبة الطينية تحت التكعيبة فتنهد فاضل بعمق ثم راح يقول: – آآآه يا ولد أبوي .. ذا الوقت بس ارتحت وبالي راق! فابتسم فوزي ثم رد بطيبة: – ربنا يروق بالك على طول يا أخوي، وتعيش وتشتري وربنا يوسع عليك. فقال فاضل وهو يرفع رجله اليمنى فوق المصطبة حتى انحسر جلبابه عن ركبته: – تعرف يا فوزي؟!
كنت مستعد أبيع عمري وأشتري هذه الأرض! فهي غالية جداً عندي. فقال فوزي بنفس النبرة الحانية: – غالية عندنا كلنا يا أبا قدري .. ربنا يطول لنا في عمرك. وعلى هذا المنوال دار الحديث بين الشقيقين عن الأرض وغلاوتها وعن ماضيها وحاضرها ومستقبلها حتى مشارف المغربية، ولمَّا بدأتْ الشمس تسحب أواخر خيوطها البرتقالية من الأفق نهض فاضل قابضاً على عكازه ليهم بالانصراف فتبعه فوزي. فجأةً تَسَمَّرَ الرجلُ في مطرحه وهو يلمح ماكينة ري صغيرة خلف البيت الطيني تظلل عليها سباتة من البوص، فأشار إليها بعكازه وهو يسأل بامتعاض: – ماكينة من هذه؟
فقال شقيقه الأصغر بابتسامته الصافية: – هي للحاج بكر صاحب البستان المجاور .. فتساءل فاضل بضيق: – وماذا تفعل في أرضي؟! فأجاب فوزي: – الرجل يستخدمها لري البستان من حين لآخر .. فقال فاضل بنفاذ صبر: – لا يهمني فيما يستخدمها .. أنا أسأل عن سبب وجودها في غيطي! فقال فوزي شارحاً: – حسب علمي كان مستأذن من عزازي ولد خالك إنه يسحب كهرباء من عنده ليسقي بستانه كل فترة والثانية .. وذلك طبعاً لإن بستانه لا تصله الكهرباء كما أن الترعة بعيدة عنه. وبدا أن الكلام لم يعجب فاضل الذي شوَّح بيده وهو يُلقي بأوامره لشقيقه الأصغر بينما يهم بالانصراف: – اسمعني زين .. من بكرة تروح للحاج بكر وتطلب منه ينقلها من الغيط وإلا لن يراها ثانيةً! وعلى قدر الدهشة التي أصابت فوزي كان صمته فلم يُحِر جواباً.
فقط غمغم وهو يتبع أخاه ببضع كلمات دلَّتْ على تبرمه. **** في الصباح التالي استدعي فاضل شقيقه ليسأله عما فعل بماكينة الري وإن كان نفَّذ تعليماته أم لا، ولشد ما كانت غضبته حين علم أنه لم يذهب إلى الحاج بكر من الأساس فضلاً عن أن يطلب منه نقل الماكينة. فنفخَ وشوَّح كثيراً وركبه الغضب. في الواقع كان المعلم فاضل أبو شكر الله رجلاً عنيداً لا يُحب أن يُكَسَّرَ له كلاماً. إذا قال شيئاً أراد ان يُنفَّذ بحذافيره، دون زيادة أو نقصان.
وإذا نهى عن أمرٍ فالويل لمن يأتيه بعد ذلك. ولطالما ردَّدَ عبارته المشهورة “هي كلمة و رد غطاها!” حتى حفظها عنه الصغير قبل الكبير. فكان في قمة العكننة ذلك الصباح حين علمَ أن أخاه لم يزر الشيخ حتى الآن. وسأله زاعقاً: – كيف لم تذهب للحاج بكر كما أخبرتك بالأمس؟
فرد فوزي بنبرة خائفة: – يا ولد أبوي اسمعني الأول .. فقال فاضل بنفس النبرة العالية: – لا أسمع ولا أشوف .. هي كلمة و رد غطاها .. تقوم الحين وتذهب من فورك لدار الحاج بكر وتطلب منه أن يأخذ ماكينته من أرضي .. وإلا لن يحدث طيب. فنهض فوزي لكنه قال بتوسل: – يا أبا قدري .. الرجل كان مستأذن من ولد خالك .. فصاح فاضل حتى أزعج الكلب النائم بجوار الفرن: – ما لي أنا ومال ولد خالي .. لقد اشتريت الغيط ولم أشتري اتفاقات بائعه! فقال فوزي يائساً: – الحاج بكر رجل طيب وخيره على الكبير والصغير.. ففزَّ فاضل من فوق الدِّكة وهو يصيح: – اسمع يا فوزي .. بلا خير بلا شر .. رُوح قل للرجل يرفع ماكينته من غيطي أحسن له.. ولا تتعب قلبي معك .. هذه أرضي وأنا حر فيها يا ناس!! مفهوم؟ فأومأ فوزي وهو يغمغم مغلوباً على أمره: – مفهوم .. ثم راح وترك شقيقه الذي عاد لمجلسه وألتقم مبسم الشيشة وأخذ يزفر وينفخ دخانها فيتطاير مع نسمات الصباح الباردة.
(* تتبع ..الأسبوع القادم الجزء الثاني)