محمد جبريل
وصف رفعت السعيد كتابي ” مصر في قصص كتابها المعاصرين” بأنه تحديق في وجه المعشوقة مصر، وليس اقتصارًا – كما فعل آخرون – على ملامسة ثوبها.
أسعدني الوصف لأن رفعت السعيد واحد من الذين أخلصوا في الكتابة عن مصر، ماضيها وحاضرها واستشراف مستقبلها. كتابي إذن يدفعني إلى الرضا عن جهد السنوات التسع التي قضيتها في قراءة مصادره ومراجعه، وكتابته.
شعرت وأنا أقرأ صفحات كتاب أسامة الرحيمي ” طباطيب العبر” ( المقصود هو الحنو من خلال العبرة وإحياء القيم ) أن واجب الكاتب، أي كاتب، أن يلغي من تصوره أفعل التفضيل. فيما عدا الكتب السماوية، فإن أي مجهود بشري يخضع للمناقشة، واختلاف وجهات النظر.
لعلي أضيف أن الكتابات تتسع أبعادها، بحيث يصعب أن نتصور النهائي في امتداد الأفق. ثمة قراءات وخبرات وتأملات، تدعو إلى المراجعة، وقبول اجتهادات الآخرين، وقبول التواضع كذلك بديلًا للثقة التي قد تمليها الذات المتضخمة.
يختلف سيد عويس عن جمال حمدان في النظرة إلى الشخصية. هي – في تقديره – تنسب إلى الشخص، الفرد، بينما عبر حمدان – في موسوعته المتفردة – عن جمعية الشخصية المصرية.
كما أرى، فإن أسامة الرحيمي جاوز في تأملاته واجتهاداته، أكاديمية الاختلاف بين الشخصية الفرد، والشخصية الجمعية، برسم التكوينات التي تصنع في امتزاجها مشهدًا كليًا.
في صباي، زرت مدينة أبويّ دمنهور. سرت في مشاوير قصيرة إلى الغيطان، بداية من انحناءة شارع وابور النور. شاهدت لمحات من عمليات التسوية والزرع والرعاية والإرواء، لكنها ظلت في إطار الومضات السريعة التي يصعب أن تشكل قوامًا لعمل روائي.
وظفت القرية في رواية واحدة هي ” بوح الأسرار”. القرية هي السمارة الواقعة بين محافظتي الشرقية والدقلية، محورها قصة المطارد فرج زهران بعد أن أمضى نهاية أيامه في القرية، يرعى أبناءها، أهله، ويستعيد الذكريات.
لأني سكندري المولد والنشأة، فقد حرصت أن أدفع بالنص إلى أصدقاء ذوي صلات أعمق بالقرية المصرية. أشاروا بمسميات مغايرة لم أكن فطنت إليها، كالقول: الدار بدلًا من البيت، وداير الناحية بدلًا من الميدان، إلخ.
***
تبدو الجهارة عالية في حديث الكاتب عن المفاجأة التي تحققت في ثورة يوليو. زلزلت دولة الوسايا، وقوضت صروح العبودية، وامتلأت الحقول بالحماس، والمخازن والأجران بالمحاصيل، وازدهار الزراعة ازدهارًا واسعًا، وغيرها من الكليشيهات التي تصلح لموضوع إنشاء، ولا تتسق مع اللغة البسيطة، السهلة، الموحية، التي وسم بها الرحيمي كتابه.
لكن قوانين الإصلاح الزراعي في التاسع من سبتمبر 1952 – الرأي للرحيمي- لم تكن هي الضربة القاضية للإقطاع، فقد ظلت الأوضاع السابقة على ما هي عليه. تشكلت لجان للجرد والحصر والاستيلاء، لكنها استغرقت زمنًا طويلًا في أداء مهمتها، إلى جانب اقتحام الفساد، متمثلًا في تهريب أجزاء معتبرة إلى أقارب الإقطاعيين وأتباعهم، وتهريب مساحات هائلة من قانون تحديد الملكية.
وإذا كانت ثورة يوليو قد حققت الكثير من المكاسب للطبقات الفقيرة، فإن الرحيمي يدين الأجيال التي تعلمت – على حد تعبيره – في ظل يوليو، وتنعموا بمكتسباتها، وغنموا المجانية في كل تجلياتها. لكن غالبيتهم شاركوا في ” هدم كل المكتسبات الاجتماعية، والحفاظ على المال العام، واستخفوا بالديمقراطية.. وانحسرت الأحلام، وضاقت السبل بالناس، وتم تخريب التعليم، وتدمير الصحة، واستشرى الانحطاط، وتبدل وجه الحياة”.
يطالعنا أسامة الرحيمي – في كلمات تالية – بصورة مغايرة لهذه الصورة السلبية” سريعًا ما جاءت لجان الجرد والاستيلاء، ووضع الإصلاح الزراعي يده على كل الأرض، عدا 50 فدانًا اختارها أهل الباشا حول السراي، وتم توزيع مئات الأفدنة على الفلاحين اليقظين، وانتهى عصر الناظر الظالم ( لم يكن زكي رستم في “الحرام” ظالمًا ) والباشكاتب الضلالي، وخيرزانة الخولي القاسية”.
لكن الصورة ما تلبث أن تتغير: فقد فتح عبد الناصر أفق أحلام المصريين – الطبقات الفقيرة بخاصة – على السماء، ثم تركهم عرضة لرياح عاتية. واشتهر السادات بزبيبة الصلاة في جبهته، وتندر الناس في مجالسهم عن الأستيكة التي محا بها خطوات عبد الناصر. أنقل عن الرحيمي قوله: ” مات عبد الناصر، وحلت سنوات الانفتاح كما سموها، وهاجر الفلاح التاريخي إلى مكامن النفط المستحدثة، واختفت معدلات الإنتاج بدرجة ملحوظة”. ويتحدث الكاتب عن الفترة التالية لحرب أكتوبر. سماها أحمد بهاء الدين” السداح مداح”. بدأت الهجرة الجماعية للفلاحين والحرفيين إلى دول الخليج، للمرة الأولى في عصرنا الحديث، تجريف دفع بمساعدي الأسطوات ناقصي الخبرة إلى صدارة سوق العمل في مصر.
***
لعل محمود البدوي هو أول من كتب عن الظروف القاسية لعمال الترحيلة، تناول بعده يوسف إدريس حياة الترحيلة، أو الغرابوة، في رائعته” الحرام” من خلال مأساة عزيزة، المرأة التي عملت مع الترحيلة بعد أن أقعد المرض زوجها.
الرحيمي يعيد تذكيرنا – من خلال رؤية متفحصة – بواقع عمال الترحيلة. إنهم يشقون في الحقول من غبشة الفجر إلى المساء، يلبون أوامر الخولي والباشكاتب والناظر. يعملون بلا أجر تقريبًا، وبالإكراه غالبًا، وقد يتقاضون أجرًا هزيلًا، لكنهم يعانون – في كل الأحوال – من ظلم صاحب العزبة، ومن بطش ناظر الزراعة والباشكاتب والخولي، وغيرهم من أدوات مالك الأرض.
كانت ميتة عزيزة مثلًا لامرأة من الترحيلة، نهاية مأساوية فرضتها الظروف القاسية التي كبلت الغرابوة بتأثيراتها.
عزيزة إدريس ضحية فرد. أما نعمت في طباطيب الرحيمي فهي ضحية المجتمع. وقف المجتمع إلى جانب الضحية الفرد، رعاها، وحماها، وعبر عن تقديره للظروف التي أفضت إلى موتها، باعتقاده في الشجرة التي ماتت تحتها، بينما ظل يلاحق نعمت بسخافاته، حتى رحلت عن عالمنا دون أن يتأثر ضمير، أو تذرف دمعة.
اللافت – في تقدير الرحيمي – أن المعنى العلمي للتخلص من سطوة الإقطاع ظل شاحبًا. أضاف إلى رماديته تأخر تطبيقه. ولسنوات، ظل الناظر في مكانته، والباشكاتب يواصل مغالطاته، والخولي يصفع بعصاه أجساد الفلاحين.
***
أتأمل الصورة الطريفة، الحزينة، للقطار الذي يمتد ما بين المنصورة ومطرية المنزلة، إنه الابن الشرعي للقطار القشاش، يبين عن أصالته عندما يوقفه السائق تلبية لسيدة على جانب الطريق. ينزل من كابينة القيادة ليساعد السيدة في وضع القفة من فوق رأسها داخل القطار. خشبي بالكامل، باستثناء القضبان والعجلات. عرباته صناديق رمادية متهالكة، تئز ألواحها عمال على بطّال. إذا أسرع، أو أبطأ، تتحرك كأنها توشك على الانهيار، وشبابيكه – في الأغلب – مكسورة أو تالفة.. ويمتد الوصف المحمل بالحزن والشجن والقدرة الأسلوبية اللافتة، عبر العديد من الصفحات.
للعيش – الخبز – في حياتنا مرتبة التقديس. أضاف الرحيمي إلى كتابات سابقة لجمال الغيطاني، عن معنى العيش في الوجدان المصري. إنه نعمة، نضعه على أعيننا، ونقسم به، وبقاياه – فتافيته – لا تلقى في القمامة، إنما نضعها على راحة اليد، وندفع بها إلى الفم. والعيش والملح للتدليل على توثق العلاقة.
ثمة رغيف القمح الذي يدل على المكانة المادية أو الاجتماعية. وكما يقول المثل” شحاتة ولقمة قمحة”، وثمة رغيف الذرة الذي اقتصر على قرية ما قبل ثورة يوليو. ثم خلط أبناء القرى القمح والذرة في رغيف له مذاق جديد، لذيذ، وثمة خبز الفطير بتعدد أنواعه، والمطبق، ومسميات لأنواع أخرى من الخبز.
وإذا كنا قرأنا في ” زقاق المدق” عن إزاحة الراديو للشاعر الشعبي من قهوة المعلم كرشة. فإن الوافد الجديد فرض مكانته في القرية، قبل أن يأخذ – بعد عشرات السنين – مكانًا متواضعًا، إلى جانب الشاشة الصغيرة التي خاطبت ميل المصريين للمشاهدة، والسماع كذلك، بأعينهم.
ألا يربت الجالس خلفك في ندوة ما كتفك، يطالبك بأن تعدل من جلستك، ليتاح له رؤية المحاضرة؟!
في قرية الرحيمي تجاور الشاعر الشعبي والراديو والتليفزيون، يخاطبون مستويات من المتلقين، وقد يخاطبون كل المتلقين بتعدد مستوياتهم، فهم يترددون على سامر الشاعر الشعبي، ويتابعون برامج الإذاعة، ويلزمون القعود أمام التليفزيون. يعشقون بطولات عنترة والهلالي والزناتي وبيبرس، ومتابعة مسلسلات الخامسة والربع في الإذاعة، وتمثيليات، أو أفلام السهرة، في التليفزيون.
بقال القرية. لا يقصر بضاعته على الطعام. إنه يعرض الكثير مما يحتاج إليه أهل القرية في حياتهم اليومية: الزيت والسكر والشاي والصابون والمنظفات والأسبرين وشربة الخروع وزجاج لمبات الجاز والمسامير والسنفرة، إلخ. إنه – والوصف للرحيمي – محل ألف صنف وصنف. وحلاق القرية لا يتقاضى أجره بعد أن يتم عمله، فالحساب – بتعدد مرات الحلاقة – مرتين في السنة، مع المحصولين الرئيسين: القمح والأرز.
والأمثلة كثيرة.
يبقى أنه من حق أسامة الرحيمي، ومن واجبي، أن أشير – في إطار ضيق المساحة – إلى إغفالي الكثير من الملامح التي أضافت إلى تنوع مادة الكتاب وثرائها.