بقلم: الشيخ محمد عبد العزيز الشملول
إمام وخ
من الآداب التي أمرنا الإسلام بأن نرعيها وأن نجتهد في تحصيلها: آداب الحوار؛ قال تبارك وتعالى: (وقولوا للناس حُسناً) أي: كلِّموهم طيباً، ولِينوا لهم جانباً، وكلمة الحوار ذكرها الله في كتابه بسورة الكهف مرتين، فقال تعالى: (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) [الكهف: 34].
وقال تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوَّاك رجلاً) [الكهف: 37].
لكن، ما هو الحوار؟ وما آداب الحوار التي يجب أن نتحلى بها؟
ما أحوجنا إلى أن نعود للآداب الإسلامية ، خاصةً أن الواقع مؤلم، وما أكثر عثرات اللسان حين يتكلم الإنسان!
فكم من حوار بين زوج وزوجته كانت نهايته الطلاق، وكم من حوار بين المرء وصاحبه كانت عاقبته الفراق، وكم من حوار بين ولد ووالده كانت ثمرته العقوق… إلخ.
مفهوم الحوار
الحوار هو مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلام، أو إظهار حُجَّة، أو إثبات حق، أو دفع شبهة، أو ردّ الفاسد من القول والرأي.
أما عن آداب الحوار فهي:
أولاً: إخلاص النية وحسن القصد.
نعم، إخلاص النية لله تعالى، هذا أدب عظيم وهو سر التوفيق والسداد في الرأي، وهو عامل القبول عند من اتصف به، وهو سبب الأجر من الله عز وجل، ويقود صاحبه إلى الحقيقة لا محالة، ولا يهمه أكان الحق له أم عليه، أكان الصواب معه أم مع غيره.
ومن القواعد التي تخدم هذا الأدب (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب).
فالحق ضالة المؤمن إن وجده فهو أحق الناس به، فيلزم من الحوار أن يكون حسن المقصد عظيم الغاية، وليس الهدف هو الانتصار للنفس، أو الرياء وحُب الظهور، ورحم الله الشافعي حينما قال: “ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه”.
لو تحقق الاخلاص في الحوار لما وجدنا علواً في الأرض ولا فساداً، ولا انتصاراً للنفس، ولا تغييراً للحقائق.
ثانياً: حسن الاستماع للمحاور
الإصغاء للمتكلم أدب وفن، وأن عملية الاتصال -كما نعلم- لها طرفان، هما المرسِل والمتلقِّي، وخلال أي حوار أو محادثة يتبادل الطرفان هذين الدورين، من هنا يشكل الإصغاء عنصراً حيوياً في معادلة الحوار. وإليك نموذجاً لحوار دار بين النبي-صلى الله عليه وسلم- ورجل مشرك اسمه عتبة بن ربيعة، وهو رجل غير عادي، كان يمثل صوت العقل للمشركين، والحوار مفاجئ، بدأ عتبة الحوار قائلاً: “يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكانة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم وسفَّهت به أحلامهم، وعِبت به آلهتهم، وكفرته به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها”.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “قل يا أبا الوليد أسمع”، فقال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رؤىً تراها لا نستطيع ردها عنك طلبنا لك الطب، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمع إليه، قال: “أقد فرغت يا أبا الوليد؟”.
قال: “نعم”، قال: “فاسمع مني”. قال: “أفعل”.
فتلا عليه أول سورة “فصلت” حتى وصل إلى قول الله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).
فناشده عتبة أن يكف، ثم قام إلى قومه، فقال بعضهم لبعض: “نحلف بالله أنه جاء بغير الوجه الذي ذهب به!”.
*الشاهد: أن هذا أفضل الناس وخير النبيين محمداً -صلى الله عليه وسلم- الذي آتاه الله جوامع الكلم، في حواره مع غيره يمثل النموذج الأسمى الذي يجب أن يحتذى به لتجسيد مفهوم الحوار الإسلامي، الذي يحترم محاوره، ويصغي له، وبأدبه يؤثر في شخصيته.
رغم أن كلام عتبة لا يتحمله أحد، وذلك لأنه يهوّل من شأن دعوته، وأنها سبب في تفريق جمعهم، وتشتيت شملهم، وبعد ذلك يساومهم على دعوته بأمور أربعة (الملك، المال، السيادة، الدواء)، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مستمع!
وعندما يرد عليه يقول له: “أفرغت يا أبا الوليد؟”.
أي أدب هذا؟ وأي احترام هذا؟ لم يقاطعه، ولم يستفز من اتهاماته، بل تركه حتى جاء بكل ما عنده.
ثالثاً: أن يكون الحوار مبنياً على الرحمة وهداية الناس
من أعظم آداب الحوار التي يجب أن نراعيها: أن يكون الحوار مبنياً على الرحمة، وهذا منهج القرآن الكريم، فالله قال لأفضل الخلق في زمانهما، موسى وهارون عليهما السلام، حينما أرسلهما إلى أعدى خلق الله وهو فرعون. قال تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) [طه: 34].
وقد أتى رجل إلى هارون الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إني ناصحك ومشدِّد عليك في النصيحة، فقال له: والله، لا أقبلها منك، قال: ولمَ؟!
قال: لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأرسل موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شر مني، فقال تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) [طه: 44].
رابعاً: خفض الصوت
إنَّ خفض الصوت عند المحاورة فيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته، ولذلك قال تعالى في سورة لقمان: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إنَّ أنكر الأصوات لَصوت الحمير) [لقمان: 19].
تعليل للأمر بخفض الصوت، والنهي عن رفعه بدون موجب.
أي إن أقبح الأصوات وأبشعها لَهو صوت الحمير.
وهذا الأدب من درجات الرقي والتحضر الذي وصل إليه الإسلام، فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار!
وظاهرة ارتفاع الأصوات استفحلت في الآونة الأخيرة، إذ باتت تصاحب البعض في أثناء أي حوار، وهي دليل على ضعف الموقف، طالما لم تكن هناك حاجة لعلو الصوت، فالواجب على المحاور أن يثبت ويتماسك، ثم يقدم ما عنده من حجج وأدلة، حتى نخرج من الحوار بفائدة.
هذه آداب أربعة، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.