✍️ بقلم : د. السامحي عبدالله
(إمام وخطيب بوزارة الأوقاف)
لا شكَّ أنَّ الغضب منْ أقوى المؤثرات على النفس، فمن استطاع أن يُمْسك نفسه بعد أن امتلأتْ غيظًا، وتأجَّجَتْ غضبًا، فقد تخلَّق بخُلُق عظيم، واستحق الجزاء الجزيل، الذي وعَد الله به هؤلاء؛ الذين يقهرون أنفسهم، ويَكْبَحون غَضبَهم، ويُطفؤون شهوةَ الانتقام، إرْضاءً لخالقهم، فأقلُّ ما يُوصَف به هؤلاء؛ أنهم يمتلكون إرادةً قوية وعزيمةً راسخة.
ودعونا نتعرف على الفرق بين الغيظ والغضب!.. إنَّ الغيظَ هو أصل الغضب، فالغيظُ هو هَيجانُ الطبع عند رؤية ما يُنْكر، وكظَمَ الرجلُ غيظَه إذا سَكَت عليه ولم يُظهرْه، والغضبُ هو إرادة الانتقام، وقد جمع بينهما العَرْجِيُّ في قوله:
وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا
لْلغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ
فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَبَصُّرُ سَاعَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الْإِلَهُ وَتُرْفَعُ
أجل.. صَدقتَ فيما قلْتَ؛ لكنْ أين نحن مِن قولك؟! بل؛ أين نحن من قول الله –تعالى-: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }(الشورى: 37)، ألسنا بحاجةٍ إلى رضا الله؟! بلى؛ فكلنا يرجوا رضاه، ويفتقر إلى عفوه ورحمته، خاصة في تلك الأيام المباركات، ونحن نستجلبُ ونستمطرُ رحمة الله، وهو -سبحانه- أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
وتعالوا بنا نتأمل سويًّا قولَ النبي –صلى الله عليه وسلم-: ” لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَة، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ “(رواه الإمام البخاري)، أي: لا تظنوا أنّ الرجل القوي هو الذي يتمتع بقوةٍ بدنية يستطيع بها أن يصرع الآخرين، إنما القوي حقًا الكامل في قوته، هو القوي في إرادته، الذي يستطيع أن يتحكم في نفسه عند الغضب، وفي هذا الحديث أن الغضب وإن كان غريزة فطرية فإنه يمكن مقاومته بعد وقوعه، وما أشقَّ وما أصعب تلك المقاومة!! لكنّها بمجاهدة النفس مرة تلو الأخرى تصير اعتيادا، قال الإمام الغزالي في الإحياء: ” ويحتاج في كظم الغيظ إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعوَّد ذلك مدَّةً، صار ذلك اعتيادًا، فلا يهيج الغَيْظ، وإنْ هاج فلا يكون في كظمه تعبٌ، وهو الحِلْم الطَّبيعي، وهو دلالة كمال العقل “، فرَوِّضْ نفسَك على الحِلْم، فإنَّ الحِلم بالتَّحَلُّمِ، وثوابُ ذلك الجنة، قال تعالى-: { وَأَمَا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فّإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }(النازعات: 40-41).
وقد يسأل سائل!! ما دام الغضبُ غريزةً فطرية فلماذا نهانا الشرع عنه؟!
اعلم أيها السائل الكريم؛ أن هناك غضبٌ محمود وهو ما كان لأجل الله ودينه ورسوله، وغضبٌ مذموم وهو ما كان لغير الله، ثُم النهي عن الغضب لا لأجل الغضب فحسب!.. إنما لكون الغضب يؤدي إلى الظلم، فلهذا كان النهي عنه، والحث على التحلي بالحلم وكظم الغيظ.
فتَحَلَّ بخلق الحِلْم، وتَخَلَّ عن الغضب وإرادة الانتقام، واستعن بالله، ولا تعجز، فالإنسانُ في يومه يتعامل مع طوائف شتى، الصالحِ منها والطالح، وربما يتعرض لما يثير غضبه، وهنا تظهر معادن الناس، فالمؤمن القوي الذي يضبط نفسه، ويعلو ويسمو بحسن خلقه، ويستحضر قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يوصي رجلًا قائلًا: ” لا تَغْضَبْ “، ولله درُّ القائل:
يُخاطِبُني السَّفِيهُ بِكلِّ قُبْحٍ
فَأكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبا
يَزِيدُ سَفَاهَةً فأَزِيد حِلْماًكَ عُودٍ زَاده الإحراقُ طِيبا
وقد حُكيَ أنَّ جارية كانت تصبُّ الماء لعلي بن الحسين، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه، أي: جرحه، فرفع رأسه إليها، فقالت له: إنَّ الله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال لها: قد عفوت عنك. قالت: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آل عمران: 134)، قال: اذهبي فأنت حرَّة لوجه الله.
وختامًا؛ أسأل الله –تعالى- أن يعيننا على طاعته وحسن عبادته، اللهم كما حسنت خَلقنا فأحسن خُلُقنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.