بكره النهار يطلع ..
تعبير رمزي شمولي تفاؤلي لا يقف عند حد معناه المنطقي المباشر بل يتعداه ليؤكد إيمان الشاعر محمد نظمي بانفراجة جميع الأزمات على المستوى الاجتماعي والسياسي ماديا وفكريا وعاطفيا ، كما يؤكد رسوخ الإيمان بالله عقائدياً داخل الذات : ” إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً … سورة الأعراف – آية 54 ” .. أي يغطي ظلام الليل بنور النهار .
وهو تقرير يتفجر من معان بعيدة الأغوار في نفس شاعرنا مؤكداً ما يمكن أن نسميه بلاغة التقرير وحكميته في آنٍ معاً ، تلك المعاني بعيدة الأغوار التي تشكل معاناتاة الشاعر وصوره الحسية التي نلمسها في خطابهِ وهو يعالج مشكلات ، بل أمراض المجتمع من خلال تبنيه بشكل فاعل حياتياً لمئات ، بل آلآف الحالات المعوزة اجتماعياً ( أطفال يتامى – أرامل – مطلقات – رجال أقعدهم العجز والمرض – وغير ذلك كثير وكثير .. ) وما يعانيه من أضرار خيانات الخبيثين والخبيثات في علاقات العمل والصداقة من صفات الجحود والطمع كما نلمس ذلك في كثير من قصائده عن هؤلاء الذين يسكت عادة عن ذكر أسمائهم ، وذلك على غرار قوله في قصيدته قصتي مع الغدر والخيانة ، كما أيضاً لا يخلو خطابه من الإشارة الدائمة بإصبع الإتهام للكثير من الشخصيات ذوات السلطات السياسية المتكئة بشكل كلي على سلطة المال
أو عن طريق العمالة لصالح دول وكيانات أجنبية على غرار قصائده عن ( البرادعية ) ولشاعرنا صوته الثوري المتمرد الواضح والناضح بالرفض .
دعونا نعود لعنوان هذا الديوان قبل أن تتشعب بنا الدروب عبر هذا المشلروع الشعري الذي أصدر منه الشاعر حتى الآن ستة دواوين ومازال هناك ما يقارب ستة دواوين أخرى تحت الطبع .
هكذا يأتي هذا العنوان / العتبة لهذا الديوان( بكره النهار يطلع ) ليعكس هذه القناعة الشمولية كمبدأ ورأي ورؤية وقناعة إيمانية راسخة :
الليل يودعني
أقوله إيه يعني
مهما ح تخدعني
بكره النهار يطلع .
وسوف نلاحظ لهجة السخرية المشوبة بخفة الظل ( أقوله إيه يعني ) في معظم خطابات الشاعر وهي سمة رسخها في سلوكه وشعرة أنه تربى في مدرسة الزجل المصري الأصيل ، فهو كما يقول العوام : إبن نكته .. والنكته – كما هو معروف – هي خلاصة قول ساخر مضحك مُبكي في آنٍ معاً من أهم ركائز الفلكلور الشعبي المصري ، ومن أهم سمات الشخصية المصرية الأصيلة وقد عبر عن ذلك الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي في قوله عن مصر :
وكم ذا لديك من المضحكات .. ولكنه ضحك كالبكا .
هذا الطابع الكوميدي الساخر خفيف الظل نراه في كثير من قصائد الشاعر ، ربما تكفي الإشارة إلى قصيدته عن الفجل تحت عنوان ( ورور ) الذي جعلها في شكل فزوره :
قالوا عليه ريان
قالوا عليه ده جنان
قالوا عليه ألقاب
فيها كتير أشجان
ريان ، ودمه حنان
كتبوا عليه ألحان
إشهد عليه يا زمان
قالوا عليه : ورور
وعِمتوا بيضا
وع الأكل قالوا : يا هوووه
عارف ده إسمه إيه ؟
جابوني يا شطار
واللي ح يعرف إسمه
ح اديله نص ريال
وجدير بالذكر ان شاعرنا مؤلف مسرحي يدرك ويعي جيدا عمق وقيمة الفنان صاحب كارزيما الضاحك الباكي ، وهو يجيد تقنية الازاحة الفنية على غرار عنوان احدى مسرحياته ( ابن الوز طيار ) إزاحة للقول الشعبي الدارج ( ابن الوزعوام )
وهذا بالطبع لا يعني أن تنحصر تجربة شاعرنا / محمد نظمي الفنية في مجابهة الفقر والعوز ، واليأس بصفة خاصة .. ومطاردته بل ومحاربته مع الإيمان بالانتصار عليه .. فالشاعرنا أيضاً دفوعه العاطفية الخاصة التي تعكس رقة مشاعرة تجاه المرأة / الأنثى الحسية التي يكتمل بها الرجل وتكتمل به :
صباح الورد والياسمين
صباح الفل ع العاشقين
بحبك آه يا ضي العين
وقلبي كله شوق وحنين . ( من قصيدة صباح الخير – ص 18 )
كل تسبيلة عنين
كل تسليمة ايدين
كل خطوة مشيتها جنبك
راح تكون قدام عنيك
والله بتسلم عليك .( من قصيدة الح – ص 43 ) ..
وهكذا على سبيل المثال لا الحصر .. ولشاعرنا حنين دائم وشديد الخصوصية لمسقط رأسه ( مدينة السويس الباسلة ) فهو يخصها دائماً بأكثر من قصيدة في كل ديوان ، على غرار قصيدته ( السويس بلدي ) :
ع السمسميه غنايا كلام
ألفين تحية وألف سلام
على نبينا خير الأنام
عليه الصلاة وألف سلام
وعلى السويس سلام وكلام .
وهي مكتوبة على وزن الموال:
مستفعلن فعلن فعلان
التي تكتب عليه معظم أعاني السمسمية وكأنها مكتووبة بالفعل لغرض التغني بها على السمسية .
ومن يقرأ مشروع شاعرنا محمد نظمي – قراءة إنساسية مُحبة – سيقف بلا أدنى شك أن جل قصائده هي حديث البراءة ، وأن شِعره مُطهر دائم للذات ، فهو وإن كان يشعر بالسخط والتبرم والمقاومة ولكنه السخط النابع من غريزة الصدق التي تبحث عن الطهر . .. إنها انتفاضة الضمير والنزوع الطبيعي نحو الخير النابعان من حاسته الإنسانية الجريحة التي تنشد الالتئام والشفاء باقتلاع الخوف والاستلاب والوحشة من قلوب الناس .
والظاهرة التي رأيتها ولمستها بعد قراءتي لديوان بكره النهار يطلع للشاعر محمد نظمي أن تجربته الشعرية ذات أبعاد إنسانية جادة تحقق وجوداً واعياً عاطفياً حسيّاً وذهنياً فكرياً .
ومعنى هذا الكلام أن كل قصيدة على صغرها تحقق دفقة من المشاعر والرؤى المكثفة ؛ تؤكد أن الشاعر قد عاني من مروره في طوايا الحالة الانسانية الجائشة التي تلهب فيه الاحساس بالألم أو الغضب أو اللذة أو الفرح :
شقت في قلبي الآه
شقيتوا يا ولداه
شقيتوا آه نصين
والآه دي تبقى آهين
يشق قلب حزين
بعيد عن السامعين .
فالقصيدة عنده تتمتع بدفع ذهني وحسي وعاطفي متواتر . وهذا يجعلنا ندرك من قراءة شعره أنه شاعر يحاول أن يتعاطى حياته تعاطياً عميقاً وجاداً:
عيون بتدبحني
وعيون بتجرحني
وعيون تسوحني
*** *** ***
عيون جريئة
وعيون بريئة
وعيون بتسأل
عن الحقيقة .
الأهم من هذا أن الشاعر محمد نظمي إنما يستقي تجربته من داخله بمنتهى العفوية والصدق والبساطة ، فهو يكتب لغة سهلة بعيدة عن التعقيد الدلالي والغموض دون أن يبدو أنه يكرر تجارب غيره ولا يتعمد خلق صور ورموز وإشارات يحاول أن يجد لها تداولاً بين الناس ، لذلك تجده مألوفاً وأليفاً لا تعنيه مشاكل الحداثة بقدر ما يعنية الصدق والأصالة والبراءة ، وهو يتبنى بوضوح قضايا شديدة الإنسانية .ويتعاطف مع الأطفال الفقراء الذين يأتي بهم الآباء إلى الدنيا ثم يتركونهم لقسوتها لا يجدون من يمسح دموعهم :
نزلت دموع ودموع
وكأنها أنهار
طفت شموع وشموع
ودبلت أزهار
يا رب أرحم طفولته
دا الولد منهار
باشكيك لربي يا ابوه
وكل من ظلموه
إنه الأسى على عهد من البراءة الضائعة والصدق الذي لا يتحقق ومن ثم فهي مجابهة ورفض ولكنها في الوقت ذاته الحنين المتصل لطور من الحياة أكثر نقاء تسكن إليه النفس وترتاح .
وهكذا .. وتأتي عتبة الخروج على ظهر غلاف الديوان مؤكدةً لمعني عتبة الدخول ( العنوان ) لتجعل من الديوان ككل دائرة بلا نهاية فتمنحه حالة من السيرورة :
الليل يطول ويطول
لكن نهايته نور
والشمس راح تشرق
وشعاعها ح يزوق
أيامنا هنا وسرور
وتلمع النجمة
وترجع النسمة
وتنتشي البسمة
لما النهار يطلع .
أما بعد ..
فلا شك أن هذه الإطلالة لن تتعدى كونها مجرد إشارة للفت الإنتباه إلى مشروع شاعرنا الذي يحتاج في حقيقة الأمر لكتاب وليس لمجرد إطلالة على واحدٍ من دواوينه على سبيل المثال حتى يتسنى لنا إضاءة كل أو معظم جوانب هذا المشروع .
………………………………………………..