يجوب بركة الله والعافية شوارع حينا قبيل الفجر، مترنمًا بأدعية وتواحيش ( وهى غير التواشيح، لأنها تقتصر علي ليالى رمضان ) يعرفها الكبار، ننتظر نحن الصغار ظهور الرجل ونتتبعه، لكن غالبيتنا يهزمه النعاس فينام. من يظل مستيقظًا هو سعيد الحظ، يروى لنا في اليوم التالي ما رأى وسمع. يصفه بأنه رجل طويل ذو لحية بيضاء، يرتدى عباءة بيضاء، ويضع علي رأسه عمامة خضراء.
أسأل أبي عن الرجل الذى كان صوته يوقظنى من النوم، صوته جميل .. لكننى كنت أخافه، لا أدرى لماذا؟
قالت لى صديقتى عترة : الرجل روح، عفريت الشيخ عباس.
نقلت ما قالته لأبي، ضحك وقال:
– الرجل نعرفه منذ سنوات، يأتينا في رمضان ، سأطلب منه أن يدعو لك بالنجاح.
سمعت اسمى يردده الرجل. فرحت. عرفت أن أبي طلب منه ذلك.
كان الشيخ بركة الله والعافية – والتعبير أطلقته أمى علي الرجل الطيب – الذى كان يبشرنا باقتراب شهر رمضان. يجوب الشوارع إلي العشر الأواخر من الشهر، ثم يعود في العام التالي.
سألت أبي بعد عودتى من رحلة عمل طويلة خارج مصر:
– هل يأتى بركة الله والعافية حينا؟
قال:
– لا، لكن ابنه يتولي مهمته.
قبيل رمضان..
اشتم رائحة الخبيز الذى ينطلق من بيت ما، لكنه يستقر في بيتنا لأن به فرنًا بيتيًا في السطح الذى يتكون من طابقين. بجوار الفرن عشش الطيور، الدجاج والبط والأوز والديوك الرومى والأرانب وأقفاص الحمام.
تحرص جاراتنا علي الخبيز في فرن بيتنا، العيش المرحرح والبتاو والمقلب والمقلم، تجيد أمى خبيز العيش المصرى الذى يشبه العيش المحمص.
تأتي الست ” أم سيد” الخبازة التى يحبها الجميع ، صغيرة البنية، تغشى عينيها سحابة بيضاء بفعل الدخان المنبعث من الفرن أثناء الخبيز، اقترب لون شعرها من لون الدقيق، تعطى الجميع الوصفة، في ليلة الخبيز تختبر العجينة وليونتها، تتفحص الوقيد، الحطب، وأعواد الذرة الجافة والقطن، بالإضافة إلي أقراص الجلة.
يوم الخبيز
تعرف قريبات أمي وصديقاتها هذا اليوم، كل واحدة تحمل صنية بطاطس، أو برام عدس للتدميس، أو دماسة فول، أو حلة محشى، أو فطير مشلتت، ليتم تسوية كل هذا قرب نهاية الخبيز.
لا ينتهى اليوم إلا بعد توزيع أرغفة علي الجيران الذين لم يخبزوا ذلك اليوم. سنتلقى نفس عدد الأرغفة في الأيام التالية.
تحب أم سيد أن نساعدها في رص الخبيز وفرده، واحضار الوقيد، أما الجائزة فهى ما تصنعه من حنونات بقايا العجين، مع قطع من العجوة، كل واحدة قرص، نلوكه بعد أن نكون أكلنا وجبة مكونة من الجبن القديم والفلفل المخلل والبصل الأخضر.
في تلك الفترة ينشط العمل في الطاحونة ” عم مرتضى” رجل من أصل تركى، يجلس أمام باب الطاحونة التى تناثرت حولها الحكايات .
كنا نخاف السير بجوارها ليلًا، فالطاحونة لها سير يمتد في جوف المبنى حوالى عشرة أمتار، يحرسه رجل مسن لكنه يتمتع ببنية قوية، يقولون إنه كان يذبح الكلاب والقطط علي سير الطاحونة كى تعمل!
نصحب أبي إلي شارعي القيسارية والحمام لشراء الفوانيس والعطارة اللازمة لشهر رمضان، الحلبة المطحونة والمغات والقرفة والينسون والسمسم والعرقسوس والخروب والكركديه والتمرهندى، ثم نذهب لشراء الفوانيس التى تصنع أمامنا: رقائق القصدير للحم، وتقطيع الصفيح، وزخرفته بالألوان، الزجاج المعشق، نختار الفوانيس.. البطيخة والمئذنة ومصباح علاء الدين.
يوصى أبي عم عزام بإضافة قطعة من رقائق الصفيح لليد حتى لا تتأثر أصابعنا من لهب الشمعة.
أذكر أنى وضعت ” صاروخًا” بجوار الشمعة، كاد الفانوس ينفجر، لن أقول ماذا حدث لي بعد ذلك!
تضع أمي الفوانيس القديمة في كيس من القماش، وترسلها إلي الجامع لتوزع علي الأطفال. وكانت بعض الجارات يفعلن ما تفعله أمى.
ليلة الرؤية..
من أجمل الليالي.. يستعد لها الكبار والصغار، يحرص الجميع علي المشاركة في جلوة عم عبد اللطيف، الغريب، كان رجلًا شديد القسوة معنا طيلة السنة، إلا في هذه الليلة، حيث تستعد فرقته للإنشاد الدينى.
تخرج ابنته الدفوف والبيارق والشارات نظيفة مكوية، تجتمع الفرقة، يصاحبها الرجال، ويتقدمها الأطفال بجلابيبهم البيضاء، أما الصغيرات فيلبسن فساتين بيضاء، وفي نهاية الموكب كانت النساء يزغردن وينثرن الملبس والنوجا.
عند بيت أولاد ” أبو خليل” – أحفاد الشيخ أبو خليل أحد أهم مشايخ الصوفية بالشرقية – ينضم عم أحمد في ملابسه البيضاء وعباءته الخضراء، يعتلي فرسه الأبيض يتراقص ويدور. يستمر الركب في السير من كفر الإشارة – حينا – إلي كفر الحكما والصيادين وكفر الحصر والنحال وعزبة حسن صالح، ثم تعود إلي بيت عم عبد اللطيف بعد أن ينام الصغار، فتحمل كل أم ابنها علي ذراعها، وتخفت أصوات الرجال.
لا نعترف نحن الصغار بحلول شهر رمضان إلا عندما ينصب ” عم زهير” بائع الكبدة فرن الكنافة، ونصبة القطائف. نلاحظ عملية صنع الكنافة، عم زهير يتفاءل بصنع الغربال وتوزيعه.. عبارة عن مربع شبيكة من عجين الكنافة يوزعه علينا، نحن أبناء الحى بدون مقابل، نأكله فور حصولنا عليه .
أول سحور للأسر هو الفول من عم رفاعى الذى يدور علي البيوت في المغرب ، يشترى الكبار الكنافة التي تحمر في السمن البلدي، يضاف إليها السكر واللبن.
لا أذكر – وأنا طفلة – أننى أكملت صوم شهر رمضان في الصيف. دائمًا ما كان العطش وشرب الماء ينهى ساعات من الصوم.
فى السابعة بدأت صيام رمضان, لكن للأسف كنت أقضى اليوم في النوم بعد العودة من المدرسة، كى لا أشعر بالجوع أو العطش!
كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة للتسلية وسماع البرامج الخاصة برمضان. لعل أهمها فوازير رمضان التي كانت تقدمها القديرة آمال فهمى، وسماع الأذان بصوت الشيخ محمد رفعت، والتواشيح من الشيخ نصر الدين طبارة. ومسلسل ألف ليلة وليلة وصوت الفنانة زوزو نبيل وهي تقول: بلغنى أيها الملك السعيد، ذو الرأى الرشيد، كنا نحبس أنفاسنا مع اختطاف الأشكيف للأميرة الجميلة، لتبدأ مغامرة جديدة لحبيبها، المدهش أن أشكيف خيالنا كان أبشع وأكثر فظاعة مما شاهدناه في التليفزيون حينما عرض ألف ليلة وليلة.
كان أبي يساعد أمى في إعداد إفطار رمضان، يتولي صنع كل أنواع السلاطات، يتفنن السلاطات الشامية، يقضى ساعات في عمل أصناف عديدة، بينما يظل الطبق الرئيسى اليومى ” الفول المدمس” سيد المائدة في السحور، تدمسه أمى يوميًا.
تفوز صديقتى أحلام ابنة الجيران بجهاز راديو كاسيت كبير لاشتراكها في حل فوازير رمضان، يزداد حماسى للمشاركة في الأعوام القادمة، لكنني – للأسف – لا أفوز، نتابع الحوارات مع الفنانين في صوت العرب والشرق الأوسط . وأستمع إلي رسائل المغتربين إلي ذويهم في مصر، بتقديم عصمت فوزى.
يصحب الكبار الأولاد والبنات للصلاة في المسجد. لصلاة التراويح ذكريات جميلة، فكل بيت يخرج صنية بها مشروبات القرفة والينسون والشربات والعصائر، الكركديه والخروب والعرقسوس والأرز باللبن والقطائف ولقمة القاضى. توضع الصواني علي الطاولة خارج الجامع، يقبل عليها المصلون بعد الانتهاء من الصلاة، كل البيوت تتناوب علي هذا الطقس، لم يعد هذا الأمر موجودًا
رمضان أبو الكرم..
تحرص الأسر علي اللمة حول الطعام، ويخرج بعضها للافطار أمام البيت، فينضم إليها كل من لم يصل لبيته. يجلس يتناول الطعام، لم نكن نعرف موائد الرحمن.
قراءة القرآن كانت في كل بيت، أوكل أبي مهمة قراءة القرآن للشيخ مُسلم شيخ الجامع القريب من بيتنا، نذهب بعد انتهاء اليوم الدراسى، ونعود للبيت قبيل أذان المغرب. بعض الأطفال يتجهون إلي كفر الحكما لمشاهدة انطلاق المدفع الذى يربض أعلي كوبرى بحر مويس، بينما نسمعه نحن في أماكننا بسهولة ويسر، لا نتناول الطعام إلا بعد سماع الأذان.
ندور بالفوانيس الجديدة مع عم شاهين المسحراتى الذى يعرف كل من في الحى تقريبًا.. يطلق طبلته ونحن وراءه نردد الأسماء. تضاف كل عام أسماء جديدة. في نهاية رمضان، وأول أيام العيد، يدور علي البيوت يحصل علي اكراميته، قروشًا قليلة، وطبقًا من الكعك والبسكوت.
يمتنع الأأستاذ جمال – مدرس الرياضيات – عن عقابنا لعدم حل الواجب.. رمضان يشفع لنا.. الكل يسعى لفعل الخير الجيران يتالحون. والغائب يحضر ليقضى الأيام الأخيرة لرمضان وأيام عيد الفطر مع أسرته.