ما أجمل أن تستعيد أيام طفولتك وذكرياتك البعيدة التي كادت أن تتوه أو تاهت فعلاً وسط زحام ومشاغل والتزامات الحياة، لتدب فجأة الروح في أوصالها بضغطة زر وكأنك كنت في شوق وحنين لتلك الأيام البعيدة وتحتاج فقط الى من ينبش في الذاكرة ليعيدك الى الوراء نصف قرن أو أقل قليلاً.
تلقيت رسالة أسعدتني كثيراً من أصدقاء طفولتي للإنضمام الى جروب على الفيس بوك لطلاب مدرستي الإبتدائية “المدرسة الإبراهيمية بالباجور”، وربما يكون هذا من حسنات ومميزات السوشيال ميديا، أنها أتاحت لنا الفرصة لطي المسافات والتواصل مع أصدقاء باعدت بيننا وبينهم الدنيا بمشاغلها وأعبائها وقسوتها.
تلك الرسالة أو الدعوة ذكرتني بالزمن الجميل كما يحلو لنا أن نسميه وكيف كنا قبل صخب الإنترنت ووسائل التواصل والفضائيات والموبايل وغيرها من الوسائل الحديثة التي جعلتنا لايغمض لنا جفن ولاننام نوماً عميقاً كالذي كنا نستغرق فيه بالأيام الخوالي.
كيف كنا نمضي وقتاً لابأس به في ممارسة الرياضة ومثله في القراءة ونتبادل الروايات والقصص كالشياطين الـ 13 والمغامرون الخمسة وغيرها مع متابعة القليل من الأعمال التليفزيونية لضيق وقت الإرسال التليفزيوني، مثل النادي الدولي وبرنامج 6 على 6 ونادي السينما واخترنا لك وفيلم السهرة الذي ينتهي ومعه نهاية الإرسال في الحادية عشرة مساء أو بعدها بقليل.
كانت أيام مختلفة بمعايير وجمال مختلف لايعرفه أبناؤنا من الجيل الجديد الذي نشأ في زمن الموبايل والسوشيال ميديا وآلاف القنوات الفضائية وتاه وسط زحام العالم الإفتراضي، لتصبح القراءة وممارسة الرياضة شيئاً من الماضي، وهو خطر لو تعلمون عظيم.
المشكلة الكبرى أننا في هذا العالم الإفتراضي الذي يمضي أبناؤنا عليه ــ ومعه ــ معظم ساعات الليل وأحياناً النهار ليس آمناً، وأصبحت عمليات غسيل المخ سهلة للغاية وسط سيل لايتوقف من المعلومات المغلوطة ــ والمدسوسة ــ ولك أن تتصور مايمكن أن يحدث وفق هذه المعطيات “الكارثية”.
وما تحاول أنت اصلاحه في الدقائق التي يتيسر لك الجلوس معهم يتم هدمه على الفور أولاً بأول، وهو أمر يستدعي أن تتعامل كافة المؤسسات التربوية والتعليمية والدينية بأسلوب جديد يتلاءم مع الزمن الذي نعيشه لانقاذ مايمكن انقاذه، فالمسألة أصبحت أكبر من قدرات الأسرة في ظل ظروف اقتصادية تستدعي المزيد من العمل لتوفير متطلبات المعيشة.
***
بصراحة ودون مواربة أو تجميل للواقع أصبحت تلك المؤسسات في حاجة الى الغربلة والإصلاح، على سبيل المثال هناك قطاع كبير من مشايحنا بحاجة الى إعادة النظر في طريقة أدائهم وتلقي دورات تدريبية إذا لزم الأمر للتعامل مع آليات المرحلة، وهذا ليس عيباً ولكن العيب كل العيب أن تتعدد السقطات من بعضهم، فالناس في الزمن الحالي لاينقصها المزيد من الضغوط.
نحتاج الى مشايخ ودعاة يدركون خطورة الكلمة ويحثون الناس على التراحم لتخفيف وطأة وضغوط الحياة، بدلاً من أسلوب الترهيب وإصدار أحكام سلبية وكأنهم يمتلكون مفاتيح الجنة والنار وبما يصيب الناس بالإحباط وبصورة قد تدفعهم الى رفض الدين نفسه والتشكيك في النصوص الواضحة وضوح الشمس.
والى جانب المؤسسة الدينية، هناك التعليم وهو بوضعه الحالي يمثل أكبر خطر على الأجيال الجديدة.. دعونا لانضع رءوسنا في الرمال، فالقصة لاتتعلق بمستوى التعليم فقط أو بطريقة الإمتحان وكيفية وضع الأسئلة ولكنها في المقام الأول عملية تربوية يتم خلالها مزج التعليم بالتربية وغرس القيم الأخلاقية في التلاميذ منذ الصغر.
وأتذكر حتى الآن تلك الإرشادات المدونة على أغلفة الكراريس في المرحلتين الإبتدائية والإعدادية وكانت تمثل بالنسبة لنا مرجعاً في القيم والأخلاق، مثلما كانت المدرسة بالنسبة لي ولكل أبناء جيلنا مكاناً مقدساً نتلقى فيه القيم الأخلاقية قبل المناهج الدراسية.
وبالنسبة للفن وتأثيره فحدث ولاحرج، فنجوم زمان كان لديهم مشروع يتجاوز مسألة الربح والخسارة بل أن الكثير من الأعمال الفنية الكبرى التي تركت بصمة بين الناس وصارت علامة من علامات السينما المصرية لم تحقق مكاسب كبيرة للمنتجين لكنها تركت ارثاً وتاريخاً لايقدر بثمن.
ولاننسى أن الأطفال الصغار يتأثرون ويتفاعلون ويحاكون مايشاهدونه في الأعمال الفنية من ايجابيات وسلبيات، ومن ثم فإن تأثير الأعمال الفنية بوضع الفن الحالي كارثي، ولانبريء أهل الفن من الجرائم التي شاعت في المجتمع، فهم جزء أصيل وشركاء في الإرتقاء بالذوق العام وأيضاً في انحدار القيم والأخلاق.
***
اذا كانت الأحكام القضائية تهدف في المقام الأول الى تحقيق الردع لمنع تكرار الجرائم أو الحد منها، فإنها في ذات الوقت تدق ناقوس الخطر لتقوم مؤسسات المجتمع بدورها ــ أو واجبها ــ في الإصلاح، خاصة في حالة تكرار جرائم بعينها حتى لو اختلفت السيناريوهات.
وهو مايجب أن تفعله جميع مؤسساتنا التربوية والتعليمية والإجتماعية والدينية، وهذا يستدعي لغة خطاب جديدة تتناسب مع العصر الذي نعيشه بما فيه من تطور خاصة فيما يتعلق بوسائل الإتصال والسوشيال ميديا التي باتت بمثابة إعلام مواز ينقل كل شيء على الفور بالصوت والصورة.
أيمن عبد الجواد
[email protected]