قد يكون سؤلاً كبيراً ومرسلاً يطول كل مشاكلنا وعلاقتنا الإنسانية التي تتراجع وتتدهور كل يوم بصورة مخيفة ومفزعة، في زمن أصبح لاصوت يعلو فوق صوت المال، فلا ميزان غيره بين الناس إلا من رحم ربي وبصرف النظر عن الوسيلة التي أتى بها هذا المال.
الأخلاقيات أخذت كتفاً قانونية “وغير قانونية” وتنحت جانباً ثم تراجعت شيئاً فشيئاً حتى تحولنا الى مايشبه السمك يأكل بعضنا بعضاً وانحسرت بشكل كبير أو اختفت القيود والمحاذير التي كانت تحكم تصرفاتنا وسلوكياتنا في السابق وأخذناها أو تعلمناها عن الأجيال السابقة.
هذا التطور المخيف أفرز مناخاً مختلفاً عن البيئة التي نشأنا فيها والتي يحلو للبعض أن يسميها ويطلق عليها “الزمن الجميل”، لينتهى الأمر الى جرائم مجتمعية غير مسبوقة تقشعر لها الأبدان وتحولت بالتكرار ومرور الوقت الى جرائم عادية ومألوفة اعتدنا عليها مثلما اعتدنا على الكثير من الأمور والخطوط الحمراء أو التي كانت حمراء فيما سبق بعد أن استباح البعض كل المقدسات والدوائر المحرمة ومنها أو في مقدمتها الدين ذاته.
قصة سيدة الدقهلية التي حاولت الحصول على بصمة شقيقتها على عقود خالية بمجرد وفاتها بينما دمها مازال حاراً وهي موضوعة في ثلاجة المستشفى انتظاراً لإنهاء إجراءات الدفن بهدف إستغلال تلك العقود فيما بعد، ليست أكثر من صفعة جديدة على وجه المجتمع لعله يفيق من غفلته ويبحث ويدرس أسباب انهيار الأسرة التي هي اللبنة الأولى والعامود الذي يتكيء ويقوم عليه المجتمع.
السيدة تحولت في لحظة الى انسان آلي بلا قلب أو مشاعر.. خططت وقررت وأرسلت من يأتي إليها بالعقود واختارت الوقت المناسب لاقتحام ثلاجة الموتى بحجة القاء النظرة الأخيرة على حبيبة عمرها التي انفطر قلبها بسبب فراقها، ولولا دخول “المغسلة” ــ بكسر الميم وفتح الغين ــ في الوقت المناسب لتحقق مرادها ونجحت الخطة الشيطانية وحصلت على البصمات المطلوبة وتحولت أملاك المتوفاة الى شقيقتها!!
الموضوع يتجاوز حدود القضية التي سيتم الفصل فيها على منصة القضاء ويدق ناقوس الخطر حول تراجع العلاقات داخل الأسرة حتى وصلنا الى هذه الحالة، وهو أمر يهمنا جميعاً.
***
على طريقة كتاب السيناريو، يمكن أن ننسج حواراً من وحي الحكاية، وكيف استترت سيدة الدقهلية خلف ستار من مشاعر الحزن المزيفة لتفوز بالغنيمة، وبالطبع لايمكن لأحد أن يتسرب إليه الشك فإذا لم تصدق المشاعرهنا وفي تلك اللحظات الجليلة فمتى تصدق، و”من لايعظه الموت فلا واعظ له”.
العجيب والمثير للدهشة هو عمر الشقيقتين، فالمتوفاة في الحادية والأربعين والمتهمة في السابعة والخمسين، أي أنها في عمر أمها تقريباً ومع ذلك لم تأخذ العظة من موت شقيقتها الأصغر التي لقيت ربها في سن الشباب مثلما لم تتنزل على قلبها الرحمات بأبناء شقيقتها الصغار الذي فقدوا للتو أغلى الناس فتصر على حرمانهم من أموالهم بعد أن فقدوا السند وحضن الأم الى الأبد.
تلك القصة التي نشرتها الصحف مؤخراً أصابت جسدي بالقشعريرة، فما العرض الدنيوي المهم الذي يفوق مشاعر الأخوة الحقيقية خاصة في لحظات الفراق بكل قسوتها وآلامها والتي لاتفوقها مشاعر، وقد تجرعت مرارة فقدان أخي الأصغر أسامة رحمه الله وعشت تلك المشاعر حيث تهون عروض وأموال الدنيا في هذه اللحظات ولو كانت كل الأموال تعيده ماترددنا عن تقديمها بنفس راضية.
ما الغنيمة التي تفوق في نظرها جلال وعظة الموت من ناحية ومشاعر الإخوة وذكريات أحلام الصبا والشباب بحلوها ومرها والتي تدور في الذهن مثل شريط السينما من ناحية أخرى، وتجعل لحظات الفراق جحيماً لايخفف وطأته إلا الرضا والتسليم بالقضاء والقدر ونسائم من لطف ورحمة الله تتنزل على القلوب المؤمنة المحتسبة وقت المصيبة.
ما الذي جرى في الدنيا؟!.. ولماذا أصبحت القلوب متحجرة مثل الصخور أو أشد وطأة حتى في أعظم اللحظات جلالاً؟!.. حكاية سيدة الدقهلية بين يدي القضاء بينما الملف الأهم بين أيدي المجتمع ويحتاج الى دراسات مستفيضة وحلول علمية تقول لنا لماذا تبدلت أحولنا وكيف نستعيد شخصيتنا وهويتنا؟!
***
يقول المولى عز وجل في الحديث القدسي:(أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتة “أي قطعته”)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها إن الرحم معلقة بعرش الرحمن تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله.. ويقول في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها “صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.