نحن نستطيع أن نغفل انتساب الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس إلى دنيا الأطباء، ربما لأنه وجد في الكتابة الإبداعية طريقًا مغايرة، وحيدة. أما الطبيب الأديب هشام قاسم فأنت تضيفه إلى حلقات سلسلة الأطباء الأدباء بداية من أحمد زكي أبو شادي، مرورًا بإبراهيم ناجي ومصطفى محمود ويسري أحمد وحاتم رضوان وشريف عابدين ورضا صالح وعيد صالح وعادل وديع فلسطين وحسام الزمبيلي ومحمد إبراهيم طه ومحمد المخزنجي ومحمد المنسي قنديل ومحمد طلبةورضا البهات وغيرهم. المرضى والأطباء والجراحات والمحاليل والبنج والأدوية والممرضات هي الدنيا التي تجوس فيها – على نحو لافت – كتابات هؤلاء الأدباء، وإن أفلحت – أحيانًا كثيرة – في الإفلات من نمطية اللحظة، والتقاط لحظات دافقة بالحس الإنساني العميق، من خلال نماذج تأخذك معاناتها، تثير إشفاقك وتعاطفك، تغادرها فتظل في وجدانك، تستعيدها في مواقف مشابهة خالطتها في الحياة المعاشة.
التقيت هشام قاسم– للمرة الأولى – في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. كانت ندوة” المساء” في بداياتها، يزيد الحضور فيبلغون العشرين، ويقلون فلا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة. ثم نمت– فيما بعد – أغصانها، وتكاثرت، بحيث يمكنني القول- أنها صارت – بتواضع واختصار وبساطة – أهم ندوات القاهرة. رموزها – الآن – فرسان الساحة الثقافية في الملتقيات والدوريات، وحتى في المجال الأكاديمي.
كان هشام قاسم طبيبًا مكلفًا في ريف الإسماعيلية. يتعجل وصول القطار أو الأوتوبيس –حسب تعبيره–إلى محطة القاهرة، كي يلحق الندوة في بدايتها، وإن لاحظت تحمسه لأبيه الإذاعي الراحل عبد الله قاسم. “تاكسي السهرة “الذي يقدمه في صوت العرب هو المثل الأجمل للبرنامج الإذاعي.
أسأله: لماذا تحدثني عن محاولاتك؟
يجيب: يكفي أن يناقشها الأصدقاء في الندوة.
وحين صدرت مجموعة هشام الأولى” من يضحك كثيرًا” ناقشتها ندوة” المساء”. رجحت كفة السلبيات – في الملاحظات النقدية – كفة الإيجابيات. توقعت أن يبين الضيق أو الغضب على الكاتب، لكنه تقبل الملاحظات باعتزامه الإفادة منها في أعماله التالية.
عالم المرضى والمستشفيات والعيادات نبض الكثير من كتابات يوسف إدريس الأولى: خمس ساعات، وشيخوخة بدون جنون، ولغة الآي آي،وعلى ورق سلوفان، وغيرها. ثم امتدت أعماله إلى رحابة الحياة: الحرام عن عمال الترحيلة، والعسكري الأسود عن السجن، ، ورجال وثيران والسيدة فييناونيويورك 80 عن العلاقة بين الأنا والآخر.
جاوز هشام قاسم التخصص المهني في كتاباته، وإن لم يبتعد – في الكثير منها– عن المجالات التي أجاد التعرف إليها، والتعبير عن أحوالها. أذكر النغم والزمن، المشكلة أنها بريئة، حدث فى مثل هذا اليوم، لخبطة مريم الثورية، خلاص، في انتظار الحبيب، مضى شتاء يناير، وغيرها، فضلاً عن العديد من قصص الأطفال.
قرأت المسرحيتين القصيرتين الجديدتين لهشام قاسم – لعلهما أولى كتاباته المسرحية – نتسلّى ونسلّيك، وإياكم وليلة الزفاف. العالم الذي عبرت عنه المسرحيتان هو العالم نفسه الذي تحرك فيه الكثير من أعماله. أحداث المسرحية الأولى في خيمة طبية بالقرب من معسكر لقوات الأمن التي تطارد الإرهاب، الطبيب إلهامي، والممرضة نجاة، والمريض الجندي القادم من معسكر الأمن المركزي القريب، تختلط فيها المواقف السياسية والتعاطف الإنساني، والإحساس بالجماعة، ومحاولة البذل – حتى بالنفس – دفاعًا عن القيم النبيلة.
وبدلاً من الخيمة الصحراوية التي تدور فيها المسرحية الأولى، فإن أحداث المسرحية الثانية” إياكم وليلة الزفاف” موضعها غرفة في مستشفى، وإن أضاف إليها الفنان حوارات في الهم الإنساني، مغلفة بصخب الفرحة والإضحاك.
بالإضافة إلى الحركة ( تعبير المسرح الذهني لا أكثر من نكتة، أو تقليعة نضيفها إلى حمار الحكيم وعصاه وعدائه للمرأة والمسميات التي أجاد اختراعها ! ) فإن الحوار هو البعد الأهم فى الإبداع المسرحى. إنه العنصر الفاعل في صياغة الدراما. قد يقلل الروائي من الحوار في روايته، وقد يستغنىي عنه تمامًا، لكن المسرحية تقوم على الحوار بصورة مطلقة. إنه هو الذي يقدم الشخصيات والمكان والأحداث والتصاعد الدرامي، وكل ما يصنع المسرحية.
الحوار في المسرحية– والقول لهيرمان هولد – لا يهدف إلى حكاية المحادثة، وإنما هدفه توصيل الجوهر. الحوار لا يحكي المحادثة حكاية طبيعية، بل إنه يقدم في ثوب المحادثة ما لا يوجد في المحادثة، فيكون مسليًا حيث المحادثة مملة، أو مقتصدة، أو غامضة ( أذكرك بكراسي يونيسكو، ولعبة النهاية لبيكيت )، أو مسهبة، فهي أقرب إلى الثرثرة الكلامية. والطريقة هي – بالطبع – طريقة كل فن: طريقة التعميق بالنظام والترتيب اللذين يقومان على الاختيار.
دينامية الحوار – أو هذا هو المفروض – تبين فى اتفاق الآراء، أوتناقضها، بما يصنع تناميًا دراميًا بين الشخصية وصوتها، والشخصيات الأخرى، وأصواتها، حتى ما قد يكون هامشيًا، وإن ذوت الدينامية في بعض المواقف بتحول الرأي الواحدإلى سكونية رتيبة، ومملة، إلى ما يشبه التقطيع السردي الذي يعبر عن حالة نفسية واحدة، هي – في الحقيقة – حالة الكاتب، والمعنى الذي يستهدفه.
قيمة الحوار الدرامى فى أنه يبدو مما نتبادله فى أحاديثنا، مفردات حواراتنا العامية وتعبيراتها، لكنها – فى الحقيقة – ليست كذلك. يخضعها الفنان للاختيار والصقل، وإن لم يسلبها إيهام التلقائية.وفيما عدا بعض المفردات والعبارات الكليشيهية في مسرحيتي هشام قاسم، فإن الحوار يتسم بالبساطة والصدق وعدم الافتعال.
تحياتي لهشام قاسم كتبًا مسرحيًا!