بقلم د. ناهد الطحان
تدور أحداث الفيلم المصري القصير ( الجائزة )– وهو انتاج جديد يستغرق 15 دقيقة فقط ، لنخبة من الفنانين المتطوعين – حول نوستالجيا ابداعية نشعر بها جميعا في عالم اليوم الصاخب الذي نفتقد فيه معاني الدفء الأسري والتواصل الإنساني الرحب والقيم النبيلة داخل أجواء الأسرة الواحدة حتى أصبحنا غرباء مهجورين معزولين في شرنقة الخوف والوحدة والجحود والعقوق وهو ما انعكس على المجتمع ككل ..
اذ نجد أنفسنا في فيلم ( الجائزة )بطولة الفنان الكبير محمود عامر وتأليف الكاتب الدرامي المتميز أيمن فتيحة واخراج المبدع الشاب فيصل الشناوي، داخل عالم يواجهنا بأنفسنا و طموحنا الزائف الذي يسقط من حساباتنا جذورنا الأولى وقيمنا وانسانيتنا كلها.. صانعين هوة لا نهاية لها بيننا وبين أقرب الناس إلينا .. الأب ، والذي يعد الشخصية الرئيسية التي تشكل أزمة نفسية انسانية في مواجهة عالم الغاب الذي يسيطر على مقدراتنا، بعد أن أنفق حياته كلها من أجل أولاده ، اذ يعاني الأب المرض المزمن الذي يحتاج علاجا شهريا مستمرا، وعندما يتصل بإبنه الذي ترك له كل شيء ليتقاعد بعد أن صنع كيانا خاصا بأولاده وهو شركة استثمارية كبرى تدر عليهم الدخل وتمنحهم الفخر ، يجد ابنه الذي يتناقض اسمه ( نبيل ) مع سلوكه، يتجاهل أباه منذ المشهد الأول للفيلم ، فعبر مكالمة التليفون يعبر نبيل لأبيه عن انشغاله عن احضار الدواء الشهري له وأنه وفر على نفسه تلك المهمة الثقيلة لتقوم الصيدلية بإرسال الدواء شهريا دون أن يتكبد عناء سؤالها ..
ونلمس من خلال الأب الذي يستدعي الذكريات من خلال الألبوم احتياجه الشديد لأبنائه وحنينا متدفقا لزوجته المتوفاة ووحدته الشديدة، وهو ما يجعله يتصل بإبنه نبيل تليفونياليصطدم كل هذا الحنين داخل الأب والذي تكشفه تعبيرات الوجه الحانية والأداء الصوتي والإيمائي الرقيق المرتعش بالعطف والدفء الذي برع في تجسيده الفنان محمود عامريصطدم بجمود قلب نبيل وكلماته الجافة ، فيصنع هذا العقوق مفارقة انسانية طالما شاهدناها وربما عايشناها جميعا من الأبناء للآباء، وتنتهي المكالمة بوعد بزيارة الإبن لأبيه بعد العمل، فيظل الأب ينتظر ابنه حتى منتصف الليل دون أمل في زيارته له، ملتمسا بعض العطف والحنان من ابنه فلا يجده .. ويزيده مرارة أن نبيل يحضر بالفعل بسيارته ويراه الأب فرحا من بالكون شقته وعندما تتصل به زوجته تدفعه للعودة على الفور رغم أنه لم ير أبيه المريض منذ ثلاثة أيام .. فتنقلب أسارير وجه الأب ( محمود عامر ) من الفرحة العارمة والشعور بالإطمئنان والرضا إلى الحزن والكمد والمرارة ، عبر أداء يفيض بالصمت والقهر المكتوم نجح الفنان محمود عامر في تجسيده ببراعة ..
وتتصاعد الأحداث عندما يتجاسر الإبن وينقاد إلى تحريض زوجتهبأن يستبدل صورة أبيه صاحب الشركة الفعلى ، والذي أنشأها بعمله وكفاحه بصورته هو قبل تصوير اللقاء التليفزيوني معه، متفاخرا أمام المشاهدينبتضحياته في سبيل انشاء هذه الشركة التي يعلم الجميع أنها نتاج كفاح أبيه، لكن كلمات زوجته تبث بداخله روح الغرور فيتصور أنه صاحب الفضل الأول ، ويتناسى أبيه ويدعي أنه عصامي ولا فضل لأحد عليه سوى زوجته وأولاده الصغار، ولكن يتصادف أن يرى الأب البرنامج فيتأثر ويشعر بالألم النفسي المرير ..
رغم ذلك فإن الأب الذي جبل على العطاء ومشاعر الأبوة الحانية يقابل ذلك الجحود بمفارقة أخرى يجسدها الكاتب الدرامي الأستاذ أيمن فتيحة باقتدار للمشاهد من خلال حدث فوز الإبن نبيل بجائزة الإبن المثالي وسط سخرية الجميع من العاملين بالشركة ، في الوقت الذي تتم استضافته وتعلن النتيجة ليواجه بمفاجأة غير متوقعة بل صادمة لقلوبنا عندما يعرض البرنامج تسجيلا للأب وهو يتحدث عن ابنه بتأثر عن أهميته في حياته وعرفانه بفضل أبيه، مقابلا جحوده بتسامح أبوي مثالي يجب نكرانه، بل وينسب الأب المكلوم لابنه نبيل كل فضل ، فيسقط في يد نبيل ويشعر بإحتقار شديد لنفسه ازاء فضل أبيه عليه وكأنه يعلمه درسا في الأبوة والعطاء ، فيذهب الإبن مسرعا لأبيه يطلب صفحه باكيا معترفا بأنه سنده وحياته كلها ، ويقرر أن يعلن عن جائزة للأب ، لأن الأب هو كل شيء و جائزته التي وهبها الله له .. لتنتهي السهرة الدرامية ( الجائزة) بضحكات متبادلة تترقرق فيها دموع الأب والإبن معا، بعد أن عاد الدفء إلى قلب الأب والإبن من جديد..وهو ما مثل جائزة ومكسبا حقيقيا.. يستحق أن يحرص عليهدائما .
تميز الفيلم بأداء حيوي نابع من حوار درامي معبر وأداء ساخر من الفنان الكبير محمود عامر، الذي جسد دور الأب فمزج بين الشعور بالمرارة ورحابة قلبه، رغم ما يعاني من وحدة وتجاهل ، وهو ما ظهر في كل مشاهده ، وحتى في مشهد الفقرة المسجلة يبدو آداء محمود عامر معبرا عن عطاء الأب اللا محدود الذي يتجاوز ويسامح أبناءه، مصدرا الرضا الكامل رغم ما يشعر من مرارة عصيانهم وجحودهم وتمردهم ، أما الشاب أحمد راضي والذي أدى دور نبيل الإبن فقد تميز بالبساطة أيضا دونما افتعال ليعبر عن هذا التمرد والإنسياق الأعمى للزوجة والغرور الذي انعكس على أدائه، فنسي فضل أبيه وهو ما أثار شعور المشاهد برفض هذا السلوك المشين، كما كانت الزوجة التي أدت دورها الفنانة منار السيد معبرة عن أنانية الكثيرات من زوجات الأبناء و ساعدت بأدائها على كشف مبررات الزوج ازاء جحوده وغروره ، وربما جعل منها دافعا أساسيا لهذا السلوك ، وهو ما أسفر عنتجاهل نبيل لها في النهاية .
الفيلم يضعنا أمام مشكلة الإنهيار الأسري وتداعي القيم والتواصل الإنساني، فالأب يمثل الهوية والإنتماء لجذورنا وأصولنا وقيمنا التي تداعت وتداعت معها مجتمعاتنا بالتبعية ، وهو دعوة من أجل صحوة حقيقة لتلك القيمالتي نسيها الكثيرون فأضحت لديهم نموذجا للضعف والتخلف، لتنهار في عصرنا هذا نواميس كثيرة دينية واجتماعية وانسانية ، هي حصيلة تراكمية لرحلة الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة ، ولقد نجح الفيلم تأليفا وتمثيلا واخراجا – رغم هذه المدة القصيرة للفيلم – في تصوير هذا الوجه القبيح من خلال تكثيف وانسيابية شديدة في المشاهد والنقلات والحوار والأداء التمثيلي بعيدا عن الإفتعال والخطابية وعبر مواقف درامية مؤثرة وغير تقليدية، إضافة إلى الموسيقى الهادئة المعبرة عن الحنين والأصالة والحزن والمواقف الدرامية المختلفة، والتي نجح المخرج فيصل الشناوي في تركيز شديد أن يصنع منها توليفة فنية راقية عبر فريق فني متكامل، بعيدا عن الإدعاء والمبالغة المرفوضة وغير المطلوبة فنيا سواء علي مستوى التمثيل أو الديكور أو الإضاءة أو الحركة أو الموسيقىالموحية بالشجن والحزن الداخلي العميق ، شارك أيضا في الفيلم الفنان أحمد عواد ( في دور المذيع ) ، ومحمد البدري ( في دور صحفي 1 ) ، ومحمود شيكا ( صحفي 2 ) ، ونعيم أبو زيد ( موظف 1 ) ، ووليد الحسيني ( موظف 2 ) ، وتامر حسن ( موظف 3 ) ، ومحمد عبد الباري ( مصور ) ، وعادل محمد ( البواب ) وأيضا مدير اضاءة ياسر عبد الحميد ، مهندس صوت محمد حسن ، مونتاج شهيرة حسن ، ومدير انتاج أحمد سالم ، مع أسماء السيد و أحمد جمال ونورهان محمد ، والأطفال : فريدة راضي ومحمد راضي ، ومدير التصوير شادي عواد ، والمصور عبد الرحمن محمد .
فيلم ( الجائزة ) هو جائزة بالفعل من كل عناصر العمل الفنية للمشاهد ، بتناغم شديد مع غيره من العناصر دون صخب زائف، من خلال مجهود تطوعي ، نتمنى أن يستمر انقاذا لمجتمعنا من طغيان نماذج مشوهة انتجت بالملايين فرضت وجودها بدعوى الفن، وأصبحت منبعا للإسفاف والجريمة في مجتمعنا .
هذا التناغم صنع نسيجا ابداعياوصدقا فنيايستحق المشاهدة، يعود بنا مستدرجا إيانالزمن الفن الهادف الذي يرتقي بالفرد والأسرة كلها ويرسخ لمعاني أصيلة نتمنى جميعا عودتها إلى بيوتنا ومجتمعنا المصري الأصيل .