كنت أتصفح الفيس بوك مثل كل يوم وكعادة معظم الناس لأجد نفسي أمام مجموعة مقاطع لأروع أغاني كوكب الشرق أم كلثوم نشرها أحد الأصدقاء على صفحته لتأخذني الى زمن الفن الراقي والذوق العالي، ولم يخرجني من تلك الحالة إلا مقطع منشور لحمو بيكا “وسع للبطل”!!
هناك فجوة زمنية نعيشها وكأننا انتقلنا عبر آلة شبيهة بآلة الزمن أخذتنا الى عالم آخر لانعرفه وبالكاد نتعايش معه ــ مضطرين ــ كيف وصلنا لتلك الحالة من الصخب تسيطر على كل مناحي حياتنا، من الفنون الى الكرة وحتى في مناقشاتنا العادية.. في شوارعنا وبيوتنا وأعمالنا وبكل مكان نذهب اليه بحثاً عن هدنة واستراحة ــ ولو قصيرة ــ من هذا الغثاء.
أين الفن الهادف الراقي والطرب الأصيل للعندليب وأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وشادية وغيرهم من نجوم هذا الزمن الذين غنوا للوطن والناس وارتقوا بالذوق العام لجمهورهم والناطقين بالعربية بكل مكان على الكوكب؟!
القصة ليست في مطربة أو مطرب صوته حلو، ولكن في الزمن نفسه بل معطياته ومكوناته من كتاب وشعراء ومثقفين وإعلاميين.. الى مشاهد ومستمع وقاريء لايقبل بكلام صفيق متدن أو لغة حوار مبتذلة أصبحت بكل أسف شائعة وتسود الآن جميع معاملاتنا، وما الغناء الهابط إلا تعبير رمزي عما وصلنا اليه.
لقد جرت في النهر مياه كثيرة وحدثت متغيرات كبيرة وملحوظة خلال العقود الماضية، منها شيوع ظاهرة أفلام المقاولات والفن الهابط الذي لا يحمل أي هدف أو رسالة ليقضي تدريجياً وبصورة ممنهجة على قيمنا وأخلاقنا.
الفن كان في مرحلة زمنية من أهم مظاهر قوتنا الناعمة وامتد تأثيره لمعظم الدول العربية الشقيقة، وأتذكر كيف كان صوت أم كلثوم يصدح في كل مكان لدى زيارتي الأولى لمنزل ومتحف الموسيقار السعودي المعروف طارق عبد الحكيم في تسعينيات القرن الماضي خلال فترة تواجدي بالمملكة، ولا أنسى عبارة مهمة للكاتب السعودي الكبير عبد الله مناع ” إن هذه السيدة جمعت الأمة كلها من المحيط الى الخليج”.
بالمناسبة “عبد الله مناع” محب لكل شيء يتعلق بمصر “أم الدنيا” مثلما كان يطلق عليها دائماً ويعتبر نفسه من أبنائها باعتباره خريج إحدى جامعاتها “جامعة الإسكندرية”، عندما كان التعليم أيضاً من روافد قوتنا الناعمة، وتلك قضية أخرى.
“عيب”..!!!!
لماذا اختفت هذه الكلمة من قاموس حياتنا؟!.. ولماذا أصبحنا نربي أبناءنا ــ معظمنا إن لم نكن جميعاً ــ على الأمور المادية البحتة، في حين نتجاهل تماماً القيم الروحية والأخلاقية؟!
مستوى النقاش بين الناس هبط الى أدنى مستوى وبصورة مفزعة، وأصبحت مفرادات الحوار الطبيعي التي نشاهدها ونستمع اليها حتى في وسائل الإعلام “المرئية” التي تقتحم بيوتنا تتضمن عبارات تخدش الحياء وكانت تعتبر في الماضي القريب من المحرمات التي لا يليق التفوه بها حتى في الجلسات الخاصة بين الأصدقاء.
نعيش حالة من التشاحن والصخب المجتمعي غير المسبوقة.. لم يعد أحد يحتمل أحداً مع شيوع سوء الظن والنوايا وتراجع القيم المجتمعية بشكل ملحوظ ومايتبع ذلك من الفرقة بين الأصدقاء والأهل، فهل المشكلة في أخلاق الناس التي تبدلت عن زمن الآباء والأجداد أم في ظهور وسائل حديثة تساعد على زيادة الفجوة والشقاق بين أبناء البيت الواحد قبل غيرهم مثل الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل الإجتماعي؟!
لم تعد هناك قدوة حقيقية نلوذ بها في تلك الأيام الصعبة، حتى الرموز نهدمها ونسعى بكل ما أوتينا من قوة الى تشويهها والتقليل من شأنها وملاحقتها بالإتهامات، وكأننا نكره كل شيء جميل أو نستكثر على الأجيال الجديدة أن تجد حتى نقطة الضوء في نهاية النفق.
لا أمل في استعادة هويتنا وأخلاقنا إلا بوضع حد للمناوشات التي تلاحقنا ليل ونهارعلى شاشات الفضائيات وتفعيل القانون في مواجهة كل من يستبيح ويخترق ثوابت مجتمعنا التي كانت راسخة ومتأصلة في نفوسنا قبل هوجة الفضائيات والسوشيال ميديا ذلك الفيروس الذي ينخر في بنيان مجتمعنا ليل نهار.
أيمن عبد الجواد
[email protected]