بقلم د. ناهد الطحان
هناك علاقة حتمية متأرجحة بين مرارة الواقع المحتقن المتشح بالنكوص والتردي و صدمة اغتراب المبدع ،كجدلية محمومة في ذاته القلقة ، فيظل في عزلة نفسية هائلة مرتحلا في عالمه ، يبحث عن إجابات شافية لأسئلته الوجودية الملحة التي تشق مرارة هذا الواقع بوحشية أكثر ضراوة، ويظل يعانيها حتى النهاية كل مفكرومبدع، كضريبة لوعيه المطرد المتراكم بطبيعته، وإدراكه المتجاوز لقسوة الواقع على ذاته الإبداعية شديدة الحساسية، فيلتقطها المبدع مشتبكا معها، ليعيد انتاج الواقع في صورة ذهنية مكثفة ومنظمة بحجم معاناته، يستحضرها المبدع بأدواته الفنية والجمالية عبر نصه الإبداعي، لتصبح رسالة فنية وفكرية عميقة وملهمة بعيدا عن الشكل الخطابي الجامد،فتفجر بدورها صحوة جمعية حقيقية في كل زمان ومكان ، وهذا هو سر تفرد الإبداع وعظمته .
من هنا يعمد الأديب العراقي ميثم الخزرجي إلى مواجهة واقعه من خلال مزيجه الإبداعي المختلف في مجموعته القصصية ( بريد الآلهة ) الصادرة عام 2019 والفائزة بجائزة الشباب من اتحاد الأدباء والكتاب العراقي عبر تفكيك الواقع بأسلوب فكري فلسفي عميق ورؤى فنية مختلفة، يغلفها فضاء شعري الصورة وسردي النزعة ، يتسم بالثراء والإدهاشوالجدة مراوغا حينا وكاشفا حينا آخر ، كصرخة إبداعية محركة لعوالم انسانية متشحة بالنكوص والإنهزام، متبنيا صدمة المتلقي ومراهنا على الوعي الجمعي، بتصوير واقعه النفسي الوجودي القلق كإنعكاس لواقع مفجع معاش همجي النزعة، لا هم له سوى الاقتناص وممارسة الفوضى والاضطراب بغية المزيد من الانتصارات الوهمية على حساب البسطاء والأبرياء، الذين استحالوا إلى غرباء في ديارهم يستجدون الأمان وينزعون إلى عوالم داخلية مهجورة هروبا واغترابا .
فحين نؤرق بوجع الوطن يصبح كابوسا يطاردنا في كل وقت ، وربما لعنة تصيب محبيه ، وسجنا خانقا يثير أشجاننا وعذاباتنا، تتجدد أهواله كل يوم ، ليتعذب وجودنا يقظة وحلما وننقسم بين الماضي والحاضر، وبين القديم والحديث، والذكرى والمستقبل، والحقيقة والزيف والأسطورة والواقع، ونسقط صرعى التيه والإغتراب والرفض في عالم عركنا تقلباته الدامية التي تفجر تساؤلات لا تنتهي بداخلنا حول ماهية الوجود .. والوطن .. والحرية .. والحقيقة والكون من حولنا .
هكذا يرتحل بنا الراوي / الأديب ميثم الخزرجي في مجموعته القصصية ( بريد الآلهة )– التي تشير لقدسية الرسالة والمحتوى -مغتربا في عالمه المقهور بخطايا الإنسان التي لا تنتهي ، عبر الإنغماس في استكشاف هذا الوجود الغامض ، المليء بأشباح تسكن بداخلنا رغم أننا نبحث عنها فيما وراء حواسنا .
ففي قصته الأولى – حسب ترتيب المجموعة – (مصادفة لا يقبلها الصفح)يعبر عن تلك المعاناة التي يشعر بها الناس إزاء سارقي شرفه ورزقه بطرق تتسم بالقانونية دون الشرعية، وكأن القانون صنع من أجلهم ، حيث يحكي الراوي عن قوى غيبية صدفية هاجمت (مرهون الحمال)فسرقت منه رجولته بل وسرقت من رجال القرية كلهم رجولتهم،ويصبح السارق أسطورة مرعبة يسلب أهل المدينة مقدراتهم ، وكأنها تلك اللعنة التي أصابت وطنه العراق والتي جعلت من الناس عاجزين منهزمين غير قادرين على المواجهة، ليطرح الطفل سعد -الذي يمثل المستقبل في القصة – تساؤلا موجها لأمه بعد أن وصفت مرزوقة عشيقها بالسارق وخيانتها بالسرقة .
سعد : أمي ، من الذين تقصدهم زوجة العم ابراهيم بالسراق ؟
( … ) – وكيف السرقة بالقانون ؟
كل ذلك بعد أن رأى سعد مرزوقة وهي تخون زوجها وتخبر سعد كي لا يفتضح أمرها بأنه سارق، فالخيانة هي المأساة وهي الوصمة التي يتصف بها المداهنون في سبيل البقاء لا الكرامة وكأنهم حيوانات لا عقل لها ولا هم لهم سوى غرائزهم .
وأم ابراهيم في المقابل تعاني شظف العيش هي وأبناؤها ، بعد موت زوجها في حادثة تفجير مات فيه الكثيرون، فهي الوطن الذي يعاني أبناؤه الإغترابازاء سارق أقواتهم وأحلامهم، وهو ما كشفه الراوي بالزعماء الذين يسرقون الشعوب ويجردونها من خيراتها ومن الشرف والكرامة .
وفي قصة ( الغرفة ) وقصة ( لنعد إلى الباب) يعاني الراوي / البطل – وهو هنا معادل لكل المؤرقين الذين يهربون من واقعهم المرير وقسوة مصائرهم –الإنكماشوالإغتراب داخل ذاتهومجتمعه، هذه الذات التي تتلاشى ملامحها في واقع مضطرب ينعكس على أفراده ويحيل عوالمهم إلى سجون، يغرقون في متاهاتها ولا يجدون مفرا من أسرها .
فالرسام هنا يحاول الهروب من المخاوف والأسئلة الوجودية، فيعود محاصرا داخل لوحاته التي تنضح بعدمية مسجونة داخل حدودها، إزاء عالم واسع كبير ومنغص يصيب العصافير بالقلق ، والناس بالهلع وكأنه يوم القيامة .
وفي قصة ( صراخ متئد ) – الذي يشير عنوانها لحالة الحزن العميق المتواصل والمؤلم وكأنه يأبى أن ينفجر فيكتسب الراحة بعد عناء -يعبر الراوي في عمق عن مأساة المكان / الوطن ، حين يتحول الماضي إلى أسطورة لأنه لن يعود مرة ثانية، وتصبح الأماكن أزمنة تحاصر حاضرنا / واقعنا المفجع المتصاعد .. أو كما قال الراوي على لسان الشيخ المجنون في القصة : ( الحياة سجن كبير .. نحن نشيخ وأوجاعنا فتية )
هكذا يرى الصبي – في القصة – العالم كئيبا ، كما يرى حياته داخل محل الأعشاب ( محل والده )، تلك الأعشاب أو الوصفات، تمثل ذلك القديم والخبرات المتراكمة ، وهي رؤية تتماهى مع رؤية المثقف وليد الذي يتأمل الحي فيسترجع تلك الأيام الجميلة التي انعكست على المكان بالبهجة والسعادة فيما مضى، لتتحول الكآبة التي تصطبغ بها كل الأشياء من حوله إلى سجن كبير يصرخ كل من فيه صراخا مكتوماتجترهالوجوه والبيوت فيغترب بدوره عن الواقع / الحاضر .
ويصدمنا الواقع الضاغط أيضافي قصة ( ما لا يدركه الحلم ) فيحيل الحياة إلى رغبة شرهه للحلم هروبامنالواقعالكابوسي، ولكنها تأبى أن تستسلم له .
ويتساءل الراوي: هل أحلامنا شاسعة إلى درجة الرفض ؟؟
ويتمنى أن يكون ما يحدث وما نعيش الآن كابوسا نصحو منه على الوهم الجميل المسمى بالحياة ..لكنه ينقلب مرة أخرى على ذاته متسائلا : (إلى متى ونحن نلوذ بأحلامنا الواهمة ونترك يقظتنا راكسة بالتيه ؟) ، في إشارة لضرورة المقاومة ومواجهة الواقع وتأكيد وجودنا إزاءه .
وعندما يقع الإنسان أسير مخاوفه ووساوسه يبادره الإله في قصة (بريد الآلهة ) قائلا :
الإله : وماذا تعني أن تكون حرا ؟ وهل في عالمكم يمنحونكم هذه القداسة ؟؟
وهو السؤال الإشكالي في القصة وفي المجموعة كلها ،وكأنه يواجهنا بأنفسنا ، ففي حقيقتنا لسنا أحرار، إذ تحاصرنا همومنا ومخاوفنا ونقائصنا وطموحاتنا وقسوة واقعنا، وكأن الراوي / الباحث في التاريخ يهرب من هذه القسوة عبر الماضي والحضارة السومرية، ليقع في قبضة قسوة أخرى واغتراب آخر داخل سجن وحصار آخر، حيث يضعه الماضي في أزمة مع نفسه، وكأن الراوي يعيد صياغة المفاهيم الإنسانية وتشكيلها ليدفع القاريء للتفكير والتغيير .
وفي قصة ( صرير الأمكنة ) يصبح النهر الذي يمثل لدى أهل القرية الطهارة والعطاء أداة اغتصاب لهديدة الفتاة البسيطة، التي تتحول بدورها إلى أسطورة في العقل الجمعي الشعبي ، حين تختفي غارقة في مياه النهر، ولم يستطع أهل القرية أن يجدوها رغم محاولاتهم ، يشعر الجميع بأن النهر قد غافلهم وسلب شرفهم ، وينتابهم الفزع من أن يحدث ذلك مع باقي فتيات القرية، فيعزمون على الإنتقام منه، ولما أوشكوا تراءى لهم شبح هديدة وتراءى الوشم الذي يؤكد طهارتها، رغم أن النهر قد تفرع منه نهر فرعي يشق القرية سمي بنهر ابن هديدة بنت عواد المرزوقي التي لم يمسها جسد من طين أو ماء .
وتنتهي القصة بالإبتعاد عن الأوهام والمخاوف فيقول الراوي موجها حديثه للقاريء : ( أرجوكم التفتوا إلي جيدا لا وجود لأصوات مرعبة ، فنحن من نؤسس لأقدارنا )، وهي دعوة لمقاومة الجهل والإغتراب عن الواقع والمخاوف والأوهام ، التي لا أساس لها بغية الهروب من مخاوفنا بدلا من مواجهتها.
وفي ( أسئلة محرمة ) يباغتنا الراوي / المؤلف بسؤال عن الزيف والحقيقة في عالم مليء بالمدعين والكاذبين الذين تحكموا في حيوات الغير فاستحالت إلى مصائر قاسية ، فهم مقدسون في نظر الناس بما صنعوه من هالات زائفة ، في حين يبقى رؤوف الشخصية المتعلمة المثقفة مغترب بثقافته في عالم تحكمه القوة لا المنطق والأوهام لا العلم والمصداقية .
ومن خلال الجدة التي تمثل التاريخ يمثل الظل في قصة ( هاجس ) – وهي آخر قصص المجموعة – حقيقة الإنسان التي يخفيها عن الآخرين، بل ويهرب منها كي يستمر في عبثه الدائم، وهو اغتراب آخر عن ذاته وهو أقسى أنواع الإغتراب في رأيي، لأنه يسلمنا للتيه والضياع والإنصراف عن معالجة نواقصنا وتهذيب سلوكنا، فتصبح ذواتنا عقيمة غير فاعلة وغير جديرة بالحياة ، وهي سخرية أخرى خفيه يمارسها الأديب ميثم المخرزجي إزاء عبثية واقعنا الإنساني الذي نهدره بلا ثمن، ليختم الراوي مجموعته ساخرا من أخطائنا التي تتوارى عنا ، وكأنه يطالبنا بالبحث في ماضينا عبر الجدة / التاريخ التي لا يستطيع الراوي أن يخفي عبثه أمامها .
هكذا يكشف الأديب ميثم المخرزجي بوعي ابداعي وفكري عن ذلك الإغتراب- بيننا وبين واقعنا وبيننا وبين ذواتنا – في مجموعته القصصية ( بريد الآلهة ) عبر أسئلته الوجودية وسخريته وتعريته لهشاشة التكوين النفسي والمجتمعي، وكأنها رسالة يوجهها لكليهماودعوة للمقاومة ،يشق بها قسوة الإغتراب، الذي نعانيه عبر هواجسنا وأوهامنا وانهزامنا المتواصل، والذي احترفناه كمخرج وبديل لثقل الحاضر،هروبا من المواجهة وكشف الحقائق وتأكيد وجودنا المخترق بهيمنة المقنعين ومغتصبي الحقوق .