✍️ د.سليمان عباس البياضي
( عضو اتحاد المؤرخين العرب)
شبه جزيرة سيناء لا تبدو في الظاهر سوي صحراء ، ولكنها أكثر من ذلك بكثير ، والباحث في تاريخها سيجد من هذا ” الكثير ” والكثير أيضاً .
تقع سيناء بين البحر المتوسط وخليج السويس وقناة السويس والبحر الأحمر وخليج العقبة ، وهي تربط افريقيا بآسيا ، ويحدها من الشرق الوادي المتصدع الممتد من كينيا عبر القرن الإفريقي إلي جبال طوروس بتركيا ،وهذا الفالق يتسع بمقدار 1 بوصة سنوياً ومساحتها 60.088 كم2 ، قاعدتها العريش التي تنقسم في الشمال والتيه في الوسط والطور في الجنوب ، حيث الجبال العالية أهمها جبل موسى 2.285 متراً وجبال القديسة كاترينا 2.638 متراً ” أعلى جبال في مصر ” وفي هذه الجبال في دير سانت كاترين وكنيسة غنية بالآثار والمخطوطات بناها جوستنيان عام 527 م وتضم محافظتي شمال وجنوب سيناء ولاشك أن الوضع الجغرافي لسيناء كان له تأثيره علي التوزيع السكاني ، بل من الملاحظ أنه كان له أيضاً تأثير علي الاسم الذي أخذته سيناء ، فهناك خلاف بين المؤرخين حول أصل كلمة ” سيناء ” فقد ذكر البعض أن معناها ” الحجر ” وقد أطلقت علي سيناء لكثرة جبالها ، بينما ذكر البعض الآخر أن اسمها في الهيروغليفية القديمة ” توشريت ” أي أرض الجدب والعراء ..
وعرفت في التوراة باسم “حوريب ” أي الخراب ، لكن المتفق عليه أن اسم سيناء ، الذي أطلق علي الجزء الجنوبي من سيناء مشتق من اسم الإله ” سين ” إله القمر في بابل القديمة حيث انتشرت عبادته في غرب آسيا وكان من بينها فلسطين ، ثم وافقوا بينه وبين الإله ” تحوت ” إله القمر المصري الذي كان له شأن عظيم في سيناء وكانت عبادته منتشرة فيها ، وبكلام آخر عرفت سيناء كأرض القمر ، ومن خلال نقوش سرابيط الخدم والمغارة يتضح لنا أنه لم يكن هناك اسم خاص لسيناء ، ولكن يشار إليها أحياناً بكلمة ” بياوو ” أي المناجم أو ” بيا ” فقط أي ” المنجم ” ، وفي المصادر المصرية الأخرى من عصر الدولة الحديثة يشار إلي سيناء باسم ” مفكات ” واحياناً ” دومفكات ” أي ” مدرجات الفيروز ” ، أما كلمة الطور التي كانت تطلق علي سيناء في المصادر العربية ، فهي كلمة أرامية تعني ” القمر ” وهذا يعني أن طور سيناء تعني ” جبال القمر ” وكان قدماء المصريين يطلقون علي أرض الطور اسم ” ريثو ” بينما يطلقون علي البدو في تلك المنطقة بصفة عامة اسم ” عامو ” .
وقد ظل الغموض يكتنف تاريخ سيناء القديم حتى تمكن الباحثون عام 1905 م من اكتشاف أثنى عشر نقشاً عرفت ” بالنقوش السينائية ” عليها أبجدية لم تكن معروفة في ذلك الوقت ، وفي بعض حروفها تشابه كبير مع الأبجدية الهيروغليفية ، وظلت هذه النقوش لغزاً حتى عام 1917 م حين تمكن عالم المصريات جاردنر من فك بعض رموز هذه الكتابة ، والتي أوضح أنها لم تكن سوى كتبابات كنعانية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد من بقايا الحضارة الكنعانية القديمة في سيناء ، والواضح أنه خلال الدولة القديمة كانت هناك صلة بين سيناء ووادي النيل ، ولعبت سيناء في ذلك التاريخ دوراً مهماً كما يتضح من نقوش وادي المغارة وسرابيط الخادم ، فقد كانت سيناء بالفعل ” منجماً ” للمواد الخام كالنحاس والفيروز الذي يستخرج المصريون القدماء منه ما يحتاجونه في الصناعة ، كما كان سكان شمال سيناء وهم ” الهروشاتيو ” أي أسياد الرمال وجنوبها وهم ” المونيتو ” الذين ينسبون إلي الجنس السامى ، كانوا يشتغلون بالزراعة حول الآبار والينابيع ، فيزرعون النخيل والتين والزيتون وحدائق الكروم ، كما يشتغلون بحرف الرعي علي العشب المتناثر في الصحراء ، ويرتادون أسواق وادي النيل فيبيعون فيه ما عندهم من أصواف وعسل وصمغ وفحم ويستبدلونه بالحبوب والملابس ..
كما كانت الحملات الحربية تخرج من مصر في بعض الأحيان لتأديب بعض البدو في سيناء نتيجة الغارات التي كانوا يشنونها علي الدلتا ، وتدل آثار سيناء القديمة علي وجود طريق حربي قديم وهو طريق حورس الذي يقطع سيناء ، وكان هذا الطريق يبدأ من القنطرة الحالية ، ويتجه شمالاً فيمر علي تل الحي ثم بير رومانة بالقرب من المحمدية ، ومن قطية يتجه إلي العريش ، وتدل عليه بقايا القلاع القديمة كقلعة سيتي الأول ، الذي يقع الآن في منطقة قطية ، ولم تقتصر أهمية سيناء من الناحية التاريخية في تلك الفترة علي ما تسجله تلك النقوش ، ولكن ارتبط اسمها أيضاً بحادث مهم آخر ، وهو أنها كانت مسرحاً لحادث خروج بني إسرائيل من مصر وتجولهم في صحراء سيناء ، وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب ، ابن إبراهيم الخليل عليه السلام ، وهؤلاء لم يكونوا يهوداً كما يزعم ” الإسرائليون ” لأنهم ظهروا كمجموعة بشرية قبل ظهور النبي موسى بأكثر من 600 سنة ، وخلال العصرين اليوناني والرومماني استمرت سيناء تلعب دورها التاريخي ، فنشأت فيها العديد من المدن التي سارت علي نمط المدن اليونانية ، والتي كان أشهرها هي مدينة البتراء ، وهي مدينة حجرية حصينة في وادي موسى ، كانت مركزاً للحضارة النبطية التي نسبت إلي سكانها من الأنباط ، وهناك خلاف كبير حول أصل الأنباط ..
والمرجح أنهم من أصول عربية نزحت من الحجاز ، لأن أسماء ملوكهم كانوا ذوى أسماء عربية كالحارث وعبادة ومالك ، وقد استخدم النبطيون طريق التجارة ، وعدنوا الفيروز في وادي المغارة والنحاس في وادي النصب ، وكانوا يزورون الأماكن المقدسة في جبلي موسى وسريال ، كما سكن رهبان من البتراء دير سانت كاترين في صدر العصر المسيحي ، وكانت أبرشية فيران قبل بناء الدير تابعة لأبرشية البتراء ، كما كانت هناك حضارات مزدهرة في سيناء خلال فترات التاريخ القديم ، فكانت سيناء بمثابة منجم المعادن الذي مد حضارة مصر القديمة بما تحتاجه ، ولم تكن تلك صحراء خالية من العمران ، كما اتضح وجود صلات وثيقة بين سيناء ووادي النيل طوال تلك الفترة ، ولم يكن هناك انفصال تاريخي بينهما ، ويدل علي ذلك تلك الآثار المصرية الموجودة علي أرض سيناء .
وإذا ما انتقلنا إلي العصر الإسلامي نجد أن عمرو بن العاص حينما قدم إلي مصر لفتحها قد سلك طريق حورس في شمال سيناء فاستولى علي العريش ، وتقدمت قواته ففتحت بولوزيوم أو الفرما ، وبعدها تقدم إلي بلبيس التي كانت نقطة مهمة علي الطريق الذي يقطع سيناء إلي الشام ، وخلال فترة الحروب الصليبية تعرضت سيناء لمحاولة الغزو من قبل الصليبيين ، حيث قام بلدوين الأول حاكم بيت المقدس الصليبي بالتوغل في وادي عربة للسيطرة علي المنطقة الواقعة جنوبي البحر الميت ، ثم شيد سنة 1115 م حصن الشوبك ليكون مركزاً يمكن للصليبيين من السيطرة علي وادي عربة بأكمله ، وفي العام التالي سنة 1116 م خرج بلدوين في حملة أخرى ، وسار حتى آيلة علي ساحل خليج العقبة ، وشيد في آيلة قلعة حصينة ليستطيع التحكم في الطريق البري للقوافل بين مصر والشام ، وتمكن بلدوين من تشييد قلعة في جزيرة فرعون الواقعة في مواجهة آيلة في خليج العقبة.
وبذلك تمكن الصليبيون من الإشراف علي شبه جزيرة سيناء التي أخذت تحرك في قلوبهم ذكريات ومشاعر دينية عزيزة عليهم ، لكن علي الرغم من ذلك فإن رهبان دير سانت كاترين رفضواا استضافة بلدوين خشية انتقام الفاطميين في القاهرة ، مما جعل بلدوين ينصرف عائداً إلي بيت المقدس ، واستمر بلدوين في استراتيجيته الرامية إلي السيطرة علي شبه جزيرة سيناء والطرق المؤدية إليها ، فبنى قلعة وادي موسي في عام 1117 م ، وفي العام التالي خرج بلدوين بحملة عبر الطريق الشمالي الذي يمر بشمال سيناء ، ووصل إلي الفرما حيث أحرقها ، وفي أثناء عودته أصيب بمرض نتيجة تناوله لوجبة من السمك أدت إلي وفاته ، وحُمل جثمانه إلي القدس ليدفن بها ، وقد تعرضت العريش لهجوم الصليبيين في عام 577 هـ / 1181 م وقطعت أشجار نخيل سيناء وحمل الصليبيون جذوعها إلي بلادهم لاستخدامها في صناعة السفن المعروفة بـ ” الجلاب ” التي تصنع من جذوع النخيل ، وذلك ضمن خطة رينالد من شاتيون حاكم حصن الكرك الصليبي للسيطرة علي البحر الأحمر ، إلا أن خطة رينالد في السيطرة علي سيناء والبحر الأحمر فشلت نتيجة الجهود التي قام بها الأيوبيون ، وخاصة صلاح الدين الأيوبي في وقت حملات رينالد في البحر الأحمر والتي وصلت حتى عدن ، وأسطول حسام الدين لؤلؤ ، الذي دمر الأسطول الصليبي ، وتغير مركز سيناء إبتداء من القرن الرابع عشر الميلادي ، فقد رأيناها منذ الفتح الإسلامي مجرد قنطرة تعبرها القبائل المختلفة من بلاد الحجاز والشام في طريقها إلي وادي النيل ، لكنها منذ ذلك التاريخ صارت منطقة تلجأ إليها القابئل ، بعد أن توقف تقريباً سيل الهجرات العربية إلي مصر في عصر المماليك ، حيث تم عزل العناصر العربية سياسياً ، ولم يعد هناك ما يدعو الحكام الجدد أن يستعينوا بالقبائل العربية في الحكم حتي يشجعوا هجرتها إلي مصر ، ويعد العصر المملوكي بداية لمرحلة من الإستقرار في شبه جزيرة سيناء نتيجة لتوقف موجات الهجرة العربية ، والاهتمام الملحوظ بطريق الحج إلي مكة والمدينة ، فقام بيبرس البندقداري ” 658 – 676 هـ / 1260 – 1277 م ” بتمهيد طريق العقبة بعد فتح آيلة ، فصار طريق السويس العقبة هو طريق الحج المصري ، كما أمنوا الطريق إلي الشام من غارات العربان لتأمين طريق البريد بين مصر والشام ، ونمت العريش في العصر المملوكي ، فقال عنها القلقشندي : إنها ” مدينة ذات جامعين مفترق ” أي أنهما بعيدين عن بعضهما البعض ” ثمار وفواكه ” ، لكن أصابها التدهور في نهاية العصر المملوكي ، حيث يذكر النابلسي خلال رحلته إلي مصر في تلك الفترة بأن العريش فيها ” قلعة وزاوية ” وبعض دور فناها خاوية ” إلا أن السلطان المملوكي قنصوة الغوري ” 906 – 922 هـ / 1501 – 1516 م اهتم بإنشاء القلاع في سيناء ، نظراً للأخطار التي كانت تحدق بدولته من ناحية الشرق وخاصة الخطر العثماني ، ومن ثم أنشأ قلعة نخل علي طريق الحج المصري وقلعة البغلة ، ونقب العقبة ، وكان اهتمام الدولة المملوكية بسيناء يهدف إلي تأمين حدود مصر الشرقية من الأخطار المحدقة بها ناحية الشرق ، وكانت تتمثل حينذاك في بقايا الوجود الصليبي ، بالإضافة إلي الخطر المغولي ، كما حاولت من وراء إنشاء القلاع وترميمها علي طريق الحج أن تظهر بمظهر الدولة التي تؤمن لرعاياها المسلمين أداء فريضتهم الدينية .