أسهل حاجة على الكسالى والمحبطين وأبناء السبيل أن يستخدموا دائما مصطلح ” الأزمة” في حديثهم عن المسرح المصري، وأنت إذا سألت أحدهم : متى شاهدت المسرح آخر مرة؟ سيجيبك ، بكل ثقة وتغفيل:” الحقيقة مافيش حاجة بتشدني بعد مسرح الستينيات“.. هكذا بجرة قلم يؤكد، من بيته في العمرانية أو حدائق الزيتون أو مصر عتيقة إللي هي مصر القديمة يعني، أن المسرح المصري في أزمة.
ربما لو قال إن هناك بعض المشاكل التي يعاني منها المسرح، بشرط إنه يكون بيشوف مسرح أصلا، لصدقته وصارت بينك وبينه أرضية مشتركة يمكن النقاش عليها، أما فكرة الغياب التام عن المسرح ثم الإدلاء بآراء سريالية حوله فهذا هو التغفيل بعينه ، والذي لايستحق المناقشة.
المسرح المصري ليس مأزوما ولاحاجة، وأنت إذا تأملت عناصره كافة، والوفرة التي هي عليها ستدرك أنه بخير، لدينا عشرات من كتاب النصوص الشباب الجيدين، ومثلهم من المخرجين ومصممي الديكور ومؤلفي الموسيقى والأشعار، ومئات أضعافهم من الممثلين والممثلات، وتقدم مؤسسات الانتاج تبعنا مايفوق الثلاثة آلاف عرض سنويا، ولدينا بعض المسئولين ومديري المسارح يفعلون مافي وسعهم من أجل انتاج عروض مسرحية تليق بالمسرح المصري ،لكن ذلك لايعني عدم وجود مشاكل يمكن ذكر بعضها هنا:
هناك بيروقراطية شديدة من قبل بعض الموظفين في التعامل مع العروض المسرحية، كأن يصر أحدهم مثلا على إلغاء بند الدعاية للعروض بحجة أن هناك قرارا من رئيس الوزراء بمنع الدعاية ، هذا موظف كسول، بل ومتآمر على المسرح، لأنه لو كلف نفسه ورفع إلى رئيسه مذكرة تفيد أن إنتاج عرض يتكلف مليون جنيه مثلا ،وتقديمه بدون دعاية يعد إهدارا للمال العام،ورفع رئيسه المذكره إلى رئيسه الأعلى حتى تصل إلى رئيس الوزراء ذات نفسه، لو فعل ذلك يمكن أن يتفهم المسئولون الكبارالأمر، ويتم استثناء المسرح من تنفيذ خطة الترشيد في هذا البند.
المشكلة أن الموظف- وماأدراك بموظفي الماليات في مؤسساتنا- يستسهل الأمر ويقول بركة ياجامع.. وهناك من يعطل ميزانية الإنتاج، وهناك من يتفنن في وضع أي عراقيل والسلام، كأنه يدفع هذه الأموال من جيبه الخاص، وكأنها لو لم تنفق على العرض سيحصل عليها مكافأة لأنه لم يعمل!مهمة الموظف في هذه المؤسسة أو تلك هي تيسير إنتاج العروض المسرحية أو النشاط الثقافي عموما، فإذا لم تقدم مؤسسته النشاط الذي أقيمت من أجله فما ضرورة وجود هذا الموظف أساسا؟
لدينا مجلة اسمها مجلة المسرح يرأس تحريرها الناقد الكبير عبدالرازق حسين ،يصدرها المركز القومي للمسرح، توقفت عن الصدور بعد خروج رئيس المركز الفنان ياسر صادق إلى المعاش، لأن رئيس المركز يجب أن يوقع على أوراق إصدارها، ألا يوجد موظف قائم بعمل رئيس المركز؟ ولماذا أصلا لم يتم تعيين رئيس للمركز حتى الآن؟ هل هذه معضلة كبري حيرت العلماء والخبراء ورجال مرفق الإسعاف؟
خذ عندك أيضا مسرح الثقافة الجماهيرية، ومنذ أن ابتلى هذا المسرح بالمشروع العبثي المسمي بـ ” سينما الشعب” والمشاكل لاتنتهي، أي عبث هذا الذي يحول مسارح الغلابة في أقاليم مصر إلى دور للعرض السينمائي، لاتقدم مثلا حفلا واحدا في اليوم، بل تقدم ستة حفلات يوميا إمعانا في إغضاب الناس وحرمانهم من مشاهدة المسرح، وإمعانا في دفع شباب المسرحيين إلى هجرة المسرح، ولا أحد يعرف من يمكنه تلقف هؤلاء ودفعهم إلى طرق منحرفة تضر بالوطن.. هو العبث ليس أكثر.. سينما الشعب في ظني، وبهذه الطريقة التي هي عليها،هي أكبر وأعنف ضربة تلقاها المسرح الإقليمي على مدى تاريخه،وقد حزنت جدا عندما افتتحت وزيرة الثقافة د. نيفين الكيلاني قصر ثقافة ببا في بني سويف وركزت في تصريحاتها بعد الافتتاح على انضمام مسرح القصر لمشروع سينما الشعب.. ببا التي تتبع بني سويف وهي واحدة من أفقر محافظات مصر لاتحتاج إلى سينما الشعب..ثم أي سينما يقدمها هذا المشروع أساسا؟
الأسبوع الماضي فقط شاهدت أربعة عروض مسرحية، وشاهدت إقبال الجمهور على المسرح، في مسرح السلام هناك ثلاثة عروض، عجيب وعجيبة، خطة كيوبيد، سيب نفسك،، وفي ميامي عرض طيب وأمير،وفي نهاد صليحة كل يومين عرض، وهناك عرض في مسرح القصر العيني “ولا في الأحلام”،وعرض في الهناجر” شتات”، وعرض في صندوق التنمية الثقافية” جوه الصندوق”، وهناك بعض العروض في الأقاليم افلتت من مؤامرة سينما الشعب وشاهدها الناس،وهناك عروض في المسرح الجامعي وغيرها من مؤسسات الانتاج، والله العالم وحده كيف عاني صناع هذه العروض ، هنا وهناك، حتى تظهر عروضهم للنور.
ليست كل العروض التي تقدم عظيمة،وليس شرطا أن ترضي جميع الأذواق، نحن بلد فاق تعداد سكانه المئة وخمسة ملايين مواطن،وطبيعي أن تكون الأذواق والاحتياجات مختلفة، لكن لابأس المهم أن تضئ أنوار المسارح في كل رقعة من أرض مصر التي تحتاج إلى مئات المسارح وعشرات الإصدارات المسرحية، وعشرات المهرجانات، ستقول إننا – مثل أغلب دول العالم- مأزومون اقتصاديا، وأقول لك إن الاستثمار في المسرح والثقافة بشكل عام، حتى لو لم يحقق مكاسب مالية، هو واحد من أفضل الاستثمارات، لأننا هنا نستثمر في عقول وأرواح الناس ماسيعود بالخير على هذا الوطن العزيز .. لكن مين يسمع!