أهم مافي العرض المسرحي” حيث لايراني أحد” هو فكرة الالتفات إلى الذات، ومحاولة كاتبه ومخرجه محمود صلاح عطية،الإصغاء إلى صوت عصره، وهموم جيله من الشباب، بعيدا عن اللجوء إلى نصوص مستهلكة، عربية كانت أم أجنبية.
لدى كل منا مايستحق الكتابة، كل منا لديه منجمه الخاص، عليه فقط أن ينظر إليه في عمق، وبرغبة حقيقية في تقديم شئ يخصه، حتى لو كان على مستوى الفكرة فحسب،فهذا يكفي، أما الشكل فحسبه أن يجيد توظيفه لخدمة موضوعه.
العرض تم تقديمه على مسرح نهاد صليحة،هذا المسرح الذي يديره شاب فنان موهوب ونشط، هو المخرج ومهندس الديكور محمود فؤاد صدقي، الذي استطاع في فترة قصيرة نسبيا تحويل هذا المسرح، التابع لأكاديمية الفنون، إلى قبلة يقصدها كل صناع المسرح ومحبيه، خاصة من جيل الشباب، فلا يكاد يمر أسبوع حتى يستضيف هذا المسرح عروضا لشباب جدد يقدم أغلبهم تجربته الأولى.
نجح محمود صلاح عطية، وهو طالب بقسم الديكور بالمعهد العالي للفنون المسرحية، في القبض على فكرة جيدة وملهمة ومجازية، نحن أمام عقرب ثواني قديم، وآخر جديد سيحل محله، كان على القديم، وكذلك على الجديد، أن يظل يدور دون توقف، فبدون دورانه لن تعمل الساعة، لن تستمر الحياة، وهو رغم ذلك غير مرئي للآخرين الذين يهتمون فقط بعقربي الدقائق والساعات.
إنها المفارقة العبثية المحزنة، فما عقرب الثواني هنا سوى تلك الفئة البسيطة من الشباب التي عليها أن تدور ليل نهار من أجل توفير نفقات العيش، هي القوة المحركة للمجتمع، لكن المجتمع لايعبأ بها أصلا، ويظل اهتمامه بالفئات الأخرى الأكثر شهرة ونفوذا وثراء.
في العرض تتجلى أزمة الشباب الباحث لنفسه عن مكان تحت الشمس، وغالبا مايجده في الظل، إذا كان من أولئك الذين بلا سطوة أو نفوذ، وغالبا ماتتكسر أحلامه على صخور الواقع وإهمال المجتمع له، مع أهمية مايقوم به من أدوار لاستمرار الحياة.
هذا باختصار مايمكن استخلاصه من العرض، ويبقى الفيصل لتجسيد هذه الفكرة مسرحيا بعيدا عن المقولات الضخمة والأصوات الصاخبة،وبرؤية إخراجية واعية، وهو مانجح فيه المخرج الذي قدم عرضه” أون ستيج” حيث أحاط الجمهور بالممثلين في شكل دائري، لاحظ أننا بصدد ساعة، وراعى الممثلون هذه الوضعية في حركتهم التي جاءت دائرية أيضا وشبه آلية، وعملت الإضاءة والديكور معا على إكمال الصورة، فالديكور الذي صممته منى سامي، جاء بسيطا ومقتصدا، ساعة كبيرة في منطقة التمثيل تدور بداخلها الأحداث، وعلى الجانبين بانر مرسوم عليه ساعة أيضا وبعض العبارات، كلها استعارت وسمت العرض، وراعت الإضاءة التي صممها أحمد بيرسي تلك الأجواء المقبضة التي يدور فيها العرض، والأسئلة التي يطرحها،وغلب عليها اللونان الأصفر والأزرق، فجاءت كعنصر فاعل في دراما العرض.
ثلاثة ممثلين ضمهم العرض، بولا ماهر في دور العقرب القديم صاحب الخبرة المستسلم لقدره والمنهك من كثرة الدوران، ومحمود بكر العقرب الجديد الممتلئ حيوية ونشاطا، وساندرا ملقي في دور الفتاة سواء التي احبها العقرب القديم أم الجديد، وثلاثتهم لعبوا أدوراهم بشكل واع لطبيعة الشخصيات، واتسم أداؤهم بالنعومة والهدوء المناسبين تماما لطبيعة العرض، مع بعض اللمحات الكوميدية العابرة.
“حيث لايراني أحد” عرض مسرحي بسيط ومنضبط ويقدم رؤية عميقة وذكية لأزمة الشباب أو أزمة الطبقات الدنيا عموما، ويشير إلى مخرج لديه قدر كبير من الوعي والثقافة، ولديه ، وهذا هو الأهم، الجرأة التي تحرره من تقاليد بالية يمكن أن تكبل حركته ، وتحصره في منطقة يتشابه فيها الجميع.