بعد رحلات متعددة خارج الحدود، عادت الشاعرة نجاة علي إلى الحياة الثقافية المصرية، محملة بأفكار ورؤى شكلتها الأسفار والقراءات والتجارب الفنية.
تقول: لي مع الأسفار حكاية، فقد رشحت للسفر والإقامة الأدبية في عدة بلدان.. على أن أدفع تكاليف الرحلة. أعتز بأن ترشيحي للسفر جاء من الخارج، وجدوا في كتاباتي ما يستحق القراءة والدراسة. كانت فرنسا وجهتي الأولى. نظرتي إلى الحياة هناك اختلفت عن نظرة الجد رفاعة الطهطاوي. ذهبت وفي داخلي شعور بالتحقق والامتلاء، مبعثه التلامس الحضاري الذي صنعه الآلاف منذ رحلة الطهطاوي، سواء من استقبلتهم مصر من المثقفين الفرنسيين، أو من سافروا إلى فرنسا من طلاب العلم المصريين الذين دخلوا جامعاتها، وحصلوا على أعلى الشهادات، وتعرفوا – وهذا هو الأهم – إلى أوجه الاتفاق والاختلاف بين حياتهم في مصر، والحياة في فرنسا.
ولعل أول ما لاحظته اهتمامهم بوضع المرأة الكاتبة، في تقديرهم أن المرأة تعاني القمع، فهم يريدون التعرف إلى معرفة الخلفية الاجتماعية والثقافية والسياسية لمشروعها الأدبي. وقد لفتني أن الرواية تفوق الشعر في ذيوعها. كما فوجئت أن علاء الأسواني أكثر شهرة من نجيب محفوظ، لأن الأسواني لهعلاقات بمعهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية، وبالمترجمين الفرنسيين، والمستشرقين, الاستشراق يعني بالمضمون، وبتقديم الأفكار النمطية التي تتحدث عن قمع المرأة، والقمع السياسي. ذلك هو سدى الإبداع السردي، أما الشعر فلا وجود له كما هو الحال بالنسبة للسرد.
تضيف: لاشك في أن مصر لها إرثها الحضاري، كان هذا يقيني وأنا أسافر إلى الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية. وفي ضوء هذه النظرة تغيرت رؤيتي وفكري عن الآخر. ثمة حالة من التعاطف لدي شعوب الأمريكتين إزاء الشعوب المهاجرة صاحبة الثقافات المغايرة.وهم يدركون جيدًا موقع مصر في الحضارة الإنسانية، من خلال ما قدمته إلى التراث الإنساني، فاستحقت الوصف بأنها فجر الضمير.
* ما أهم الملامح التي تعرفت إليها في رحلتك الأمريكية؟
– أمريكا تجميع للثقافات المختلفة، وهذا يعلمنا الانفتاح على الآخر، كل ثقافة لها أفكارها، ولابد أن تحترم ثقافات الآخرين. في فنزويلا أعجبوا بشعري، لأنهم يخصصون مترجمًا لكل شاعر. وأذكر أنهم سألوني عن أهم الشعراء في الوطن العربي. طرحت الأسماء التي أذكرها، فلم يبد أنهم يشاركونني التذكر. ربما الشاعر العربي الوحيد الذي حقق مكانة متفردة هو الفلسطيني محمود درويش، لأنه كان مترجمًا بصورة جيدة، ولأن شعره ارتبط بالقضية الفلسطينية.
تضيف نجاة علي: للأسف، أدبنا غير واصل، ومن تحققت لهم الشهرة في الخارج هم من كتبوا في المضمون.
* ماذا عن التجارب الشخصية والعامة التي انعكست في قصائدك؟
– أعترف أني لم أرصد هذه الظاهرة. ربما ظهرت في الكتابة من خلال حصيلتي المعرفية، ووعيي الثقافي. وقد حققت لي علاقتي بالنقد إطلالات على آفاق لم أكن أعرفها. صارت روايتي للأدب أشد تنوعًا وعمقًا مما لو كنت درست الشعر فقط. لقد فصلت بين كل من الرواية والشعر والدراسة. ثم تحقق لي إلمام بفن آخر هو النقد، كوّن لي متعة أخرى.
ونسأل الشاعرة عن علاقتها بجيلها، والأجيال الأخرى؟
تجيب: ظني أن أسرتي كان لها الفضل الأول في تشجيعي، وتحديد البوصلة التي أهتدي بها. كان أبي محبًا للقراءة، وأتاحت لي مكتبته قراءات مهمة، وكان أخي منشغلًا برسالته للماجستير. تعلمت منهما أن القراءة جزء مهم من الكتابة. في الفترة الأولى من حياتي الأدبية، لقيت تشجيعًا من الكثيرين، أساتذتي في الجامعة، وزملائي، وأصدقائي في ندوة المساء، وفي أتيلييه القاهرة.فزت أكثر منمرة في مسابقات الجامعة. كما سعدت بطلب الشاعرين الكبيرين حلمي سالم وحسن طلب نماذج من قصائدي لنشرها في الدوريات التي كانا يشرفان عليها. ولا أنسى إهداءات الكتب التي خصني بها أساتذة أحترمهم، تجاوزت بقراءتها ما كنت أصادفه من كتابات تافهة ورتيبة.
* في رأيك.. من أبرز مبدعي جيلك؟
– أذكر زهرة يسري وعماد فؤاد ووائل فاروق، وهو الآن في إيطاليا، يكتب بالعربية والإنجليزية والإيطالية. وعصام عبد الجليل الذي لم يكمل مشواره.. وأيضًا زكي عواد الذي فضل المحاماة على الأدب، مثلما فعل الأديب الكبير الراحل عادل كامل صاحب “مليم الأكبر”. واصل صديق عمره نجيب محفوظ رحلة الإبداع، بينما وجد عادل كامل مستقبله في مكتبه للمحاماة. وهناك كثر يمتلكون الموهبة، لكن ظروف الحياة لم تيسر لهم القراءة والمتابعة والتجريب، فقنعوا بالعمل الوظيفي!
* فأين الشاعرات؟
– لدينا فاطمة قنديل وإيمان مرسال وعلية عبد السلام، وغيرهن.
* بماذا تفسرين فوزك بالعديد من الجوائز؟
– بداية، أنا بلا شلة يتبادل أفرادها المصالح. أميل إلى المحافظة، ولا أطيق السهر خارج البيت، ولاأتردد كثيرًا على مقاهي وسط البلد. تشغلني ظروفي الخاصة ودراستي. مع ذلك فقد حصلت على جائزة طنجة المغربية، وجائزة دولية من بيروت. وأذكر أني لم أتقدم للجائزة الأخيرة، فقد كان الاختيار للشباب من المبدعين في الوطن العربي أقل من 39 سنة، والاختيار من الشباب في امتداد الوطن العربي. وكان معي أحمد يماني ومنصورة عز الدين وحمدي الجزار.
قلنا لنجاة علي: أخيرًا.. هل حقق لك الشعر ما أردته؟
قالت: أنا أكتب من منطلق المتعة، والتعبير عن وعيي وأفكاري، بالإضافة إلى الشعر فأنا أكتب النقد والمقالات الأدبية، لكن يظل الشعر هو طريقي الأول والأشد قربًا لوجداني. فكرت في ترجمة الشعر، لكنني تبينت صعوبة الترجمة. ليس من السهل ترجمة الشعر العربي. على كل حال، فإن الشعر أعطاني المتعة والاطمئنان، وهو الصديق الذي تسعدني صداقته، وعندما ينشر لي ترجمة لشعري، أدفع لأصدقائي بنسخ منها، كما يعرف الجميع فإن الشاعر ينفق على إبداعه، لأنه سلعة بلا عائد مادي.. للأسف!. الشعر لا يؤكل عيشًا، ومن يحرص على الوجود الشعري مثل القابض على الجمر!
يعلو صوتها في نبرة تأكيد: ظني أنه ينقصنا الكثير حتى نقدم أنفسنا للآخرين. من لم يسافر إلى الخارج تغيب عنه الصورة. لابد من وجود حركة جادة ومنظمة ومدروسة للترجمة. ينقصنا التبادل الثقافي.