إذا راجعنا الإبداعات التى صدرت قبل الثالث والعشرين من يوليو 1952، فسنلحظ تغيرات مهمة فى شكل الإبداعات ومضمونها، خلال تلك الفترة القصيرة زمنيًا، وهو ما يبين – بدرجة وبأخرى – في قصص يوسف إدريس ويوسف الشاروني وسعد مكاوى وعبد الرحمن الخميسي وشكري عياد وإبراهيم الورداني وغيرهم..
أسهمت المدرسة الحديثة في مجالات الإبداع الفني حوالي ثورة 1919. ويرى ب، م، كربوشيك أن يوسف إدريس هو – بحق – الوريث الشرعي للمدرسة الحديثة، حمل نفس خصائصها المعرفية والفنية، ودافع عنها من خلال إبداعاته ومساجلاته الفكرية، حتى تأثره بعمالقة الأدب الروسي: تشيخوف وجوركيوديستويفسكي، إنما هو سير في الطريق التي ارتادها مبدعو المدرسة الحديثة، وإن كان تشيخوف هوأقرب الجميع إلى عالمه. وفى تقديمه لمجموعة جمهورية فرحات، أشار طه حسين إلى ما تتسم به مجموعة أرخص ليالى من تعمق للحياة، وفهم لدقائقها، وتسجيل صارم لما يحدث فيها” .
يوسف إدريس موجة هائلة، تلتها موجات متتابعة من كتاب القصة. ولعله يجدر الإشارة إلى أن معظم قصص أرخص ليالى [1954 ] المجموعة الأولى ليوسف إدريس – قد نشرت فى الصحف والدوريات قبيل قيام الثورة، وتعد بداية مرحلية للقصة العربية الحديثة، من الصعب تبين عمقها لو أننا اكتفينا بمجرد الشخصيات التى كانت نبضًا لليالي إدريس الرخيصة. إن الخصائص التي اتسمت بها قصص الثلاثينيات والأربعينيات موجودة في قصص إدريس. الشخصيات والأحداث لا تختلف – في ظاهرها – عن الشخصيات والأحداث التي تطالعنا فيأرخص ليالى، لكن الأماني والتطلعات والأحلام والثورة والإصرار وغيرها من المشاعر، كانت نبضًا لقصص إدريس.
قصص هذه المجموعة أقرب إلى القصائد الشعرية التي تتغنى بحب الفنان لكل ما هو مصري، والمشكلة الاجتماعية – تحديدًا هي الخيوط التى نسج منها إدريس أحداث قصصه، والمحتوى الذي تشتمل عليه يصدر عن الإحساس العميق بهذه المشكلة. إن التعاطف مع الفئات الكادحة، وليس الغضب على الفئات المستغلة، هو نبض هذه القصص، لكنك تطوي الكتاب وقد امتلأت بالسخط الذى لا حد له على الأوضاع السلبية في المجتمع، اللمحات الواعية التي تنبض بأدق التفاصيل تغني عن المباشرة، ففي قصة نظرة – مثلًا – يشاهد الراوي خادمة صغيرة تحمل صينية بطاطس، وتريد أن تعبر الطريق، اهتزت الصينية على رأس الصبية – فجأة – وأسرع الراوي إلى إنقاذها دون أن يعبأ حتى بالعربة التي كادت تدهمه، لكن الخادمة كانت قد عدلت من وضع الصينية فوق رأسها، ووقفت – في ثبات – تتفرج على أولاد يلعبون الكرة، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون” ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها. وقبل أن تنحرف استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة “. ضمن الفنان قصته كل الدلالات التي أراد أن يعبر عنها، بداية من الصورة الموحية للخادمة الصغيرة، إلى سحق أحلام الصبية في التمتع بطفولتها مثل كل الأطفال.
الفنان لا يقول لنا ذلك مباشرة، ولا يحمّل القصة من التفاصيل بما يضفي عليها تقريرية . الفنان – في القصة، وفي كتابات إدريس بعامة – لا يضغط على دور الفن القيادى، فليس ثمة صرخة رومانتيكية، أو نهاية سعيدة، فرضها الفنان على القصة، وعلى القارئ بالتالي، والذي كان – باعتبار مصريته – يسير في رحلة الكفاح السلبى الي وصلت – داخل القدر المكتوم بالقهر – إلى درجة الغليان. اكتفى الفنان بأن حدد أبعاد لوحته جيدًا وعني تمامًا بكل الظلال والإيحاءات، ثم وضع ريشته مدركًا أن الشعور السلبي للقارئ سيولد شعورًا إيجابياً يقاضي الظلم والفساد. ثمة حيادية اكتفت بأن ترسم اسكتشًا سريعًا لموقف ما، يحفل بالجزئيات الصغيرة والمنمنمات، فيرتفع بها إلى الكليات التي تحدد المشكلة دون أن تطلب حلًا، إنما هي تثير فيوجدان المتلقى ما يدفعه إلى التفكير، وإلى التعاطف مع هذه الشخصيات من الطبقات الأدنى. إنها تختلف عن حيادية نجيب محفوظ – على سبيل المثال – التي تبين – في الدرجة الأولى – عن إدانة للاستعمار الذي كان من نتائجه المباشرة تفسخ المجتمع في داخله.
أما حيادية إدريس فهي تعكس تعاطفًا مع الفئات الكادحة، وتعري الأرستقراطية والبورجوازية الكبيرة من كل ما يسترون به أنفسهم من زيف وطلاء، لكنها ترسم الموقف كما هو، دون إقحام من الفنان، ودون أن يحدد لنفسه موقفًا فكريًا، أو سياسيًا، جهيرًا، يعبر عنه إبداعه. تبدو تلك الحيادية – مثلًا – فى متعاطي الحشيش الذي يأتي به الضابط إلى الطبيب ليثبت أنه ابتلع المخدرات، ويدور بين الطبيب والضابط حوار يتنبهان – من خلاله – إلى أن اليوم هو موعد سهرة أم كلثوم، فيلبي أحدهما دعوة الآخر إلى قعدة مزاج.
ثمة من يكتب عن يوسف إدريس بأنه ” ليس أول من كتب عن الفلاحين في بلادنا، وليس أول من كتب عن القرية، ولكن قيمته الحقيقية هي أنه عندما كتب عن القرية قلب تربتها، وعرف باطنها قبل ظاهرها، فخرجت في أدب قرية مصرية بحق وحقيق”، إنه – فى تقدير الناقد – يستحضر الريف ويقطر روحه، ويحفظها حية إلى الأبد تحت عدسة الفن السحرية، المتعددة الألوان.
يوسف إدريس يضغط على المشكلات الأساسية في حياة الفلاح – والمواطن المصرى البسيط – مثل العلاقة بين المدينة والقرية، والحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى تحقيق رغبات المرء الجنسية والوجدانية، والكراهية للسلطة، والخوف من الموت، إلخ. ثمة المدرس الذي يجد آمال نفسه التي تبددت، في شاب من طلبته أصبح طبيبًا، وأبو إسماعين الذي يستطيع – بمفرده – أن يزيح ظل الهجانة الثقيل، بعيدًا عن أبناء قريته، والإعرابي الذي يراهن على التهام مائة ثمرة تين شوكي دفعة واحدة ” ومشى في الطريق، وبدايات المغص تلوي أحشاءه، كل ما يهمه أنه تغذى وأسكت عنه – ولو هنيهة – مسامير الجوع، وليكن بعد ذلك ما يكون”، وعبد القادر طه الذي استشهد بأيدي رجال الملك السابق لأنه أعلن احتجاجه على فساد الوضع، والبرعي الذي أمسك بسماعة التليفون لأول مرة فى حياته، وداعبته أمنية نفذها على الفور، طلب المركز، وقال بحرقة: يلعن.. يلعن أبوك يا مركز!، وشبراوي الذي كانت القاهرة في مخيلته شيئًا جميلًا وخطيرًا، فيه عذوبة الحواديت وروعة الأساطير ورهبة المجهول. حتى الأسطر الأولى من قصة ألبرتو مورافيا الطفل يفيد منها الفنان – ولعله لم يقرأها – في قصة أرخص ليالى، هؤلاء الذين يعانون غياب الكهرباء، وانعدام أية وسيلة للتسلية، فيلجؤون إلى الجنس باعتباره أرخص الليالي:”عندما جاءت السيدة الفاضلة من جمعية رعاية الطفل لزيارتنا كما تزور غيرنا، سألتنا: لماذا ننجب أطفالًا كثيرين إلى العالم، فما كان من زوجتي التي كانت في ضيق في ذلك اليوم، إلا أن قالت لها الحقيقة البسيطة: لو كانت لدينا المقدرة، لذهبنا إلى السينما في المساء.. ولكن هذا هو الحال، فلأننا لا نجد المال، نذهب إلى السرير، وهكذا يولد الأطفال “. الموقف نفسه يعبر عنه جاك القدري في روايته” ديدرو”: ” إنها المتعة الوحيدة لديهم التي لا تكلفهم شيئًا، وهم ينسلون أثناء الليل، بلا تكاليف عن كوارث نهارهم”.
المعنى نفسه تعبر عنه قصة الزحام ليوسف الشاروني، حيث تتلاصق أجساد الرجال وأجساد النساء كلما جمعتهم عتمة الليل، فيتوالدون كالأرانب. نماذج تناقض في مشاعرها وتكوينها النفسي، معظم الشخصيات التي قدمتها القصة القصيرة قبل أرخص ليالى، وكما يقول يوريناجيبين، فإن يوسف إدريس ” لا يلجأ أبدًا إلى زخرفة أبطاله من الفلاحين والعمال والسائقين والميكانيكيين وصغار الموظفين وغيرهم من ممثلى الشعب العامل.. وهو يصورهم كما هم في واقع الحياة، بكل ما فيهم من فضائل ونقائص.. لكن قلمه يتأجج بالكره والازدراء للنماذج الطفيلية من البيروقراطيين والمستغلين والوصوليين”.
أما المقومات، أو الخصائص، الفنية، فقد كتب طه حسين عن يوسف إدريس بأنه يملك من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء، ما ينعكس فى مجموعته الأولى ” أرخص ليالى ” التى نشر غالبيتها قبل قيام ثورة 1952.
ولعل النقلة المرحلية التي أحدثها يوسف إدريس في القصة القصيرة العربية، تشبه تلك النقلة المرحلية التي أحدثها تشيخوف في القصة القصيرة الروسية، وفي العالم، إنها نقلة أقرب إلى الانقلاب الإبداعي الذي غيّر من مذاق وتكنيك القصة القصيرة بعامة. “.. وقرأ الناس – لأول مرة – قصصًا عن متاعبهم الصغيرة التي يشكل تعددها مأساة الحياة لكل إنسان، وبدأوا يلمحون في السطور ومضات الأمل، التي يشكل التماعها مستقبل الإنسان”.
.