تعددت لقاءاتنا في قصور الثقافة بالإسكندرية، وفي القهوة التجارية على الحد الوهمي الفاصل بين حي بحري وأحياء الإسكندرية الأخرى. نتبادل الآراء والملاحظات في الندوات وجلسات القهوة، محورها القضايا الثقافية وكتابات الآخرين. ثم منحني فرصة مناقشته في ما يخصني، لما كتب نقدًا مطولًا عن روايتي” قاضي البهار ينزل البحر” في جريدة ” الأيام” التي كانت تصدر – حسب ما أذكر – عن جامعة الإسكندرية. كانت كلماته محور جلستنا التالية بالقهوة التجارية، ومنطلقًا لصداقة، عمقها إشرافه على أولي الرسائل الجامعية في أعمالي، للشاعر والباحث الجاد الدكتور أحمد فرح.
كلمني عن أسرته الصعيدية التي تنتمي إلى مركز الوقف بمحافظة قنا، وعن مولده (1936 ) ونشأته في ضاحية ” أبو قير”، وتلمذته – في المرحلة الابتدائية – على أستاذه عبد الفتاح الجمل – أستاذي في العمل الصحفي – وتنبهه الباكر إلى المواهب التي تستحق الرعاية والتقديم، وهو الدور الذي صار تكوينًا في شخصيته من خلال رئاسته للقسم الثقافي بـ” المساء”، حيث قدم – على حساب موهبته الفنية المتفردة – جيلًا بأكمله من المبدعين والنقاد ( هو الدور نفسه الذي قدم عناني من خلالهمبدعي الأجيال المختلفة، عبر مداخلات نقدية، أو مقدمات تبين عن جماليات إصداراتهم ). كما حدثني عن تلمذته للمعلم السكندري الكبير محمد زكي العشماوي، وعلاقة الزمالة القائمة على الاهتمامات المشتركة، لتتحول إلى مثل ناجح لزيجة عالمين، وهي زواجه بالأستاذة الدكتورة سعيدة رمضان، التي كان آخر مناصبها الأكاديمية رئاسة قسم اللغة العربية بجامعة طنطا.
تعددت اهتمامات محمد زكريا عناني الأكاديمية، تولى التدريس في كلية التربية بباريس، وعمل أستاذًا في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وفي كلية الآداب للبنات بالدمام، وكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز، وأشرف على قسم اللغة العربية بآداب الإسكندرية، فرع دمنهور، وقسم الدراسات المسرحية بآداب الإسكندرية، فضلًا عن إشرافه على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات المصرية والعربية، ومشاركاته في الكثير من الملتقيات داخل الوطن العربي وخارجه.
حسب رأيه، فإن التخصص العلمي الذي يسير فيه الباحث أو الكاتب، كثيرًا ما يخضع لوقائع لا علاقة لها بالمنطق المكشوف المحدد. تعلقت – والقول له – بالأدب الأندلسي، ربما من خلال أني أعجبت مبكرًا بشخصية عبد الرحمن الداخل. كما شغفت بمرحلة الحملة الفرنسية، لا لشيء إلًا لأن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ( المجلس الأعلى للثقافة الآن ) أعلن – في زمن الوحدة مع سوريا – عن مسابقة حول سليمان الحلبي، وهكذا رحت أجمع كل ما كتب حول الحملة حتى أنجزت المهمة، وأعددت كتابًا صغيرًا عن سليمان الحلبي. كان من المفترض أن يطبع، إلًا أن الانفصال جاء، فمحا كل ما كان يتصل بالحلبي وغيره. وأظن أن كل ما نلته آنذاك مبلغ خمسين جنيهًا، كان بمثابة ثروة طائلة بالنسبة لي آنذاك.
كنت أعد نفسي لدراسة النقد الأدبي، لكني تحولت عنه إلى الأدب الأندلسي، أو بالأحرى الموشحات. ولو تأملنا في كل هذا الركام، فإننا نجد أن فكرة الصلات الثقافية قائمة، سواء من خلال الأدب الأندلسي – وهو مزيج من لغات وآداب، وإن كانت العربية هي البارزة – أو مرحلة الحملة الفرنسية التي تداخلت فيها الثقافتان العربية والفرنسية.
ولزكريا عناني أستاذ الأدب المقارن تعريفه لهذا النوع النقدي: إنه المجال الحيوي الذي انبثق عن تاريخ الأدب، وعن النقد، لكي يعتني بتلك الجوانب التي تركت طي الإهمال على مدى طويل.
أستطيع القول إن محمد زكريا عناني شاركني التهيؤ للعديد من كتاباتي السردية. حدثتك عن المأزق الذي واجهه المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف، لما تعطل مصعد البيت، فاعتذر عن لقاء بينه وبيني، خشية أن يظل المصعد معطلًا عند عودته، فلا يتاح له الصعود إلى شقته في الطابق العاشر، في البناية المطلة على ميدان التوفيقية.
كنت أصحب زكريا عناني وهو يقود سيارته إلى بحري. لاحظ تأملي أعلى البنايات ما بين تمثال سعد زغلول والنصب التذكاري، في الضفة المقابلة للبحر. أبحث – بنظري إلى أعلى البناياـت – عن الشقة الأعلى، تصورتها موضعًا فنيًا لمأزق مشابه ما عاناه أبو سيف: رفعت القباني ذو السن المتقدمة، يرفض النزول من شقته في الطابق العلوي، خشية بقاء المصعد معطلًا، فلا يستطيع العودة. يطرد الرتابة والملل باستعادة الماضي من حياته، تتشكل أمامه – وأمام القارئ – فصولًا أربعة، أو تكاد، محملة بالرؤى والتجارب والخبرات.
وأخذتني المفاجأة، مثلما أخذت زكريا عناني، لما هتفت وأنا أشير إلى بيت من أربعة طوابق يطل على الميناء الشرقي: هنا شقة الست نجاة!
الست نجاة التي هتفت باسمها عاشت في هذه الشقة، منذ قدمت مع زوجها محرم من مدينتها دمنهور، تحولت الشقة – بالزواج والعشرة والإنجاب والمؤانسة – إلي وطن، فهي ترفض محاولات زوج ابنتها – بعد وفاة الزوج – لترك الشقة، بموضعها المتفرد، إلى شقة أخري، ويشاركها البحر الصديق – أمواجه ورياحه ورماله – رد محاولات انتزاعها من الشقة الوطن.
وحين ملنا من شارع صفر باشا، إلى شارع أحمد كشك، كنت أبحث عن مقام وليّ بهذا الاسم. أحداث الرواية التي أزمعت كتابتها تجري في بيت يطل على المقام، هجر أصحابه الشقة التي كانوا يقيمون فيها، وتوزعوا – بعد وفاة الأبوين – في أحياء أخري، ظلت الشقة خالية، ووجدت فيما حدث دافعًا لأن تنطق الحجرات بما شهدته جدرانها. المفاجأة أن أحمد كشك هو اسم الشارع، أما منصور فهو الولي في روايتي” زمان الوصل”، تبدأ به أحداث الرواية وتنتهي.
ومن ذكريات طفولتي ذلك الضريح الذي كنا نلعب تنس الطاولة في غرفته بمدرسة البوصيري الأولية. الطاولة إلى جانب الضريح المغطى بالخضرة. في ثراه ولي مجهول، ليس هو البوصيري الذي أطلق اسمه على المدرسة. ضريح البوصيري في جامعه القريب من جامع المرسي أبو العباس وياقوت العرش والواسطي ونصر الدين ومجمع الأولياء الأربعة عشر.
قرأت عن أصل تسمية الأنفوشي: قيل إنها تعود إلى الإيطالى أنفوس، أقامت عائلته في بحرى، في زمن قديم، ورجحت روايات أنه من أولياء الله الصالحين، وروى أن سيدى الأنفوشي هو صاحب المقام داخل حجرة، بالطابق الأول، وسط مدرسة البوصيرى الأولية، وذكر أن الاسم ليس عربيًا، لكنه فارسي، لعله ” الكهنفوشى ” الذى ورد فى كتاب السخاوى ” الضوء اللامع”، عن أعلام القرن التاسع الهجري.
أهملت تعدد الروايات، حتى فاجأني حوار في القطار المتجه إلى القاهرة، شاب يخبر سيدة تكبره، لعلها أمه، أنه زار في قلعة قايتباي ولي الله الأنفوشي. وكان أول ما حرصت عليه – عقب عودتي إلى الاسكندرية – رفقتي لمحمد زكريا عناني إلى قلعة قايتباي، فأحاول زيارة الولي الذي تحدث عنه الشاب.
كان صديقي الكاتب المسرحي الكبير مهدي بندق قد رفض – استنادًا إلى فكره العلماني – مناقشة المعنى من أصله، ورفض بالتالي أن أصحبه بحثًا عن ولي الله الأنفوشي. وجد عناني في زيارة القلعة ما قد يضيف بالفعل إلى مشروع الرواية. وواجهت في الساحة الواسعة أسئلة مستغربة وإنكارًا، ثم أنبأني حارس للغرفة الخالية إلَا من ضريح قديم، إن النسوة يأتين – بعد صلاة كل جمعة – يحملن النذور والشموع، ويحطن الضريح بدعوات الشفاعة والبرء من العقم، ويتمرغن على الأرض استجلابًا للذرية.
أنبأتني الروايات الشفاهية أن التسمية محرفة من اسم جندي في جيش السلطان قايتباي، أظهر الخيانة – بتأييد من السلطان نفسه – ليعرف ما يدبر الأعداء. رسا على ما سيفعله، وما ينتظره من عقاب. حياته ثمن القبول بتهمة الخيانة، يضلل الأعداء في محاولاتهم النفاذ إلى داخل المدينة. يعطيهم الأوراق الزائفة بدلًا من الأوراق الصحيحة. من كانوا يعدون الأوراق الصحيحة ألقى القبض عليهم، وأعدموا. يدفع الأعداء جنودهم – بالاطمئنان لما تحمله الأوراق – إلى داخل القلعة، يلقاهم جند السلطان بالإبادة. نفض الجندي الأنفوشي عن رأسه تدبر النتائج. لا يملك إلا القبول برأي السلطان، هو الأشد معرفة بصالح الجماعة، حتى لو كان الثمن حياة أحد جنوده. لم يدفع به إلى الموت لأن ذلك ما يريده له، وإنما لأن فقد حياته وسيلة تضليل لجيوش الصليبيين. قرن السلطان إعلان براءة الجندي – فيما بعد – بدفنه في الحجرة نفسها، أسفل القلعة المسماة باسم قايتباي.
ظهرت – بتوالي الأعوام – بركات سيدى الأنفوشىومعجزاته. ظلت روح ولى الله على خيرها، وحبها للناس، لم يؤثر فيها أنه دفع حياته ثمنًا لإخلاصه لقومه.
لطلب النصفة والمدد والبرء من العقم، وحل ما يعانين من مشكلات، يتردد النسوة – بعد صلاة الجمعة – على ضريح سيدي الأنفوشي – صار وليًا! – يكنسن قبالة الضريح، دلالة كنس الظلم من الدنيا، يشعلن الشموع، يضوعن البخور، يتحسسن الضريح بأيديهن، يضعن ترابه فى جيوبهن، يتمرغن على الأرضية المحيطة بالضريح، يضعن عليه قطع قماش ممزقة، تعاويذ، نذور، رسائل أمنيات وشكاوى في أوراق مطوية.
تساءلت المخيلة الفنية: لماذا لا يكون ولي الضريح هو الأنفوشي؟
وحين بدأت في تجميع مصادر روايتي ” حلّق وحيدًا” عن آخر ملوك الأندلس، قبل أن تصبح ماضيًا في ذاكرة المسلمين، أهداني زكريا عناني نسخة مصورة من رواية لمؤلف مجهول هي” نبذة العصر في انقضاء دولة بني نصر”. تعرفت – في أحداثها- إلى أيام العرب الأخيرة في الأندلس، مشفوعة بملاحظاته كأستاذ متخصص في ثقافة الأندلس، أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته: في الشعر الأندلسي والوسيط، مدخل لدراسة الموشحات والأزجال: الموشحات الأندلسية، النصوص الصقلية، ديوان ابن الصباغ الأندلسي، تحقيق دار الطراز لابن سناء الملك، لسان ابن الخطيب ماله من موشحات وأزجال، وغيرها. وكانت الرواية المجهولة عونًا لمخيلتي الفنية في تصور الغروب العربي في الأندلس.
كان لمحمد زكريا عناني نشاطه الوافر في الحياة الثقافية السكندرية خارج أسوار العمل الأكاديمي، ترأس الهيئة الثقافية الموازية لمجلس الثقافة القاهري، وترأس فرع اتحاد كتاب الثغر، وتولى – لسنوات – رئاسة تحرير مجلة ” الكلمة المعاصرة” التي أثبتت فاعليتها على المستوي القومي، ثم واجهت – بقرار غبي – قرار إلغائها.
سألته: هل تجد تعارضًا بين الإبداع والنقد والتدريس والنشاط العام؟
أجاب: ليس هناك تعارض لولا أزمة الوقت. ومن المؤسف أني لم أنشر أعمالًا إبداعية منذ 1955، باستثناء بعض القصائد والقصص التي نشرت في الصحف والدوريات. والذي أعتقده – وأرجو ألًا أكون مخطئًا – أن النقد والانشغال الأكاديمي يضيق من مدى الطاقة الإبداعية، لأن صاحب بالين.. وهكذا فالأكاديميون هواة في مجال الإبداع، والفن استيلاء كلّي على الإنسان، لا تصلح معه الحلول الوسط.
محمد زكريا عناني.. تغيرت برحيله صورة الإسكندرية كما عهدتها.
سأفتقد أعز الأصدقاء.