فضيحة بعلم الوصول:
الزمان.. قبل 48 عاماً.
المكان.. مستشفى الدمرداش.
الحدث.. مجموعة من القيادات في حالة تركيز شديد يبحثون عن حل لتلك المعضلة المطروحة على مائدة الإجتماع، وتتمثل في توفير غطاء مقنع لإغلاق المستشفيات مع اقتراب ساعة الصفر لحرب أكتوبر، حتى يتم تجهيزها لاستقبال الجرحى جراء العمليات الحربية.
والسؤال الذي كان يشغل الجميع ويبحث عن إجابة هو كيف يتم الأمر دون أن نلفت انتباه العدو الذي يحلل أي شيء وكل شيء يتعلق بمصر في تلك المرحلة الخطيرة والساخنة والإستثنائية في تاريخ الصراع العربي الأسرائيلي.
الجميع يدققون في التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة والتركيز يبدو على وجوه الحضور، وجاء الحل العبقري بأن الأمر سيتم تحت أعين العدو دون إثارة الإنتباه أو ملاحظة أي شيء من خلال افتعال فضيحة صحية بالمستشفيات المطلوب اخلائها ، بنشر شائعة عن انتشار ميكروب التيتانوس بمستشفى الدمرداش ثم انتقاله الى المستشفيات الأخرى.
وحدثت وقتئذ ضجة كبرى وحملات صحفية ضخمة تنتقد الأمر وتطالب بإقالة وزير الصحة، ووصلت الرسالة الى العدو على النحو الذي نريده وبعلم الوصول على طريقة رسائل البريد، وهكذا بلعوا الطعم مثلما بلعوه في العديد من المواقف الأخرى التي شكلت خطة الخداع الإستراتيجي وفاجأت وأبهرت العالم ومهدت الطريق لإنتصار أكتوبر العظيم.
الزلزال:
ولكي نعلم أو بالأحرى تفهم الأجيال الجديدة أهمية خطة الخداع الإستراتيجي وفي ذات الوقت يعرفوا قيمة وصعوبة الإنتصار، فمن الضروري إلقاء الضوء على الأوضاع بالمنطقة والعالم قبل حرب أكتوبر، فالصورة كانت ضبابية وملتبسة ويكتنفها الكثير من الغموض ولم يكن الطريق ممهداً أو مفروشاً بالورود.
اسرائيل تمتلك تسليحاً متطوراً ولديها شيك على بياض من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى وتحصل على ماتريد من أسلحة وذخائر وربما دون أن تطلب، وفوق ذلك يحميها خط بارليف الممتد على طول الجبهة والذي أجمع الخبراء العسكريون على مستوى العالم استحالة تدميره ولو باستخدام القنبلة الذرية.
أضف الى ذلك أن خط بارليف مزود بنقاط حصينة وفتحات الـ “نابالم” الجاهزة لتحويل القناة الى جحيم من النيران اذا فكر المصريون في العبور، وكانت التقديرات آنذاك بأن أي قوة ستتواجد بالقناة سيتم تدميرها بالكامل بأسلحتها ومعداتها.
هذا على الجبهة الإسرائيلية، في حين كان الوضع على الجبهة المصرية مختلفاً تماماً، حيث كنا نبذل جهداً كبيراً ومضاعفاً لخداع العدو وعيونه المنتشرة في كل مكان بالعالم لكي نحصل على الحد الأدنى من الأسلحة الذي يساعدنا على دخول الحرب التي كانت حتمية ومقدسة عند المصريين مهما اختلت وانحازت ضدنا كافة المعطيات العسكرية.
هذه الصورة المعقدة جعلت الحسابات تميل الى استحالة نشوب حرب، وقد كان ذلك يصب في صالحنا ، بل أننا ساهمنا في تضخيم هذا الشعور من خلال خطة خداع محكمة ومتكاملة دعمت الإحساس لدى العدو وحلفائه بأن فكرة الحرب غير مطروحة على الإطلاق، لذلك جاء الإنتصارمفاجئاً وساحقاً ومزلزلاً ليس لإسرائيل فحسب وانما أيضاً لأجهزة المخابرات المعادية التي فشلت فشلاً ذريعاً بالتنبوء بموعد الحرب أو الأسلحة المستخدمة فيها.
تلك الصدمة والمفاجأة دفعت جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل خلال الحرب الى ارسال رسالة مختصرة جداً الى الولايات المتحدة تقول: “أنقذونا من الزلزال.. إنها القيامة”.
وللحديث بقية.
أيمن عبد الجواد