توقعت الخبر لأنه يصل ما سبق. قررت السلطات الإسرائيلية تقديم الشيخ عكرمة صبري إلى المحاكمة بتهمة التحريض، حلقة في سلسلة دفاع الشيخ عكرمة عن الجامع الأقصى، وعن الهوية العربية للقدس، مقابلًا لعمليات التهويد الصهيونية.
الشيخ عكرمة ظاهرة فلسطينية عربية، تتجاوز المناصب، آخرها مسئوليته الدينية عن الأقصى، فقد تعددت مشاركاته في النضال داخل فلسطين المحتلة وخارجها، من خلال العديد من المؤلفات التي تدافع عن الحق الإسلامي والعربي، كذلك الحضور العلمي في الملتقيات التي كان الأقصى، والقدس بعامة، فضلًا عن الأرض الفلسطينية المحتلة محورًا لها.
ألف عكرمة صبري ما يعانيه المناضلون، فقد تعددت مرات اقتحام بيته، واستدعائه للتحقيق، واعتقاله، ومنعه من دخول الأقصى.
أذكر الكلمات الحزينة، الحاسمة، للشيخ عكرمة صبرى، أشبه بالنداء الأخير فى المطارات، ينبه المغادرين إلى الموعد النهائي الذي – إن تأخروا في الصعود إلى الطائرة – فستغلق أبوابها، وتتهيأ للإقلاع.
أعترف أن التشبيه ليس دقيقًا، فمأساة الأقصى أعمق وأخطر من مجرد مشكلة راكب تأخر عن الصعود إلى الطائرة. المعنى الذي أريد توضيحه أن كلمات الشيخ عكرمة معلم مهم في التنبيه إلى المخططات الصهيونية التي تستهدف الأقصى.
بدأ تنفيذ مخططات تدمير ثاني الحرمين عقب دخول القوات الإسرائيلية ساحة الأقصى في 1967، أزيلت البنايات المحيطة بالمكان، واستبدل حائط المبكى بحائط البراق، بداية لخطوات متلاحقة تهدف إلى تهويد الأقصى، وما حوله من منشئات وبنايات، كجزء من قصر الإقامة في القدس على معتنقي الديانة اليهودية.
كانت محاولة إحراق الأقصى في 1969 أولى المحاولات الصهيونية لإفراغ القدس من محتواها الإسلامي والعروبي. ثم واصلت إسرائيل تنفيذ مخططاتها التدميرية، بعمليات حفر وتنقيب تحت الجامع الأقصى، بزعم البحث عن هيكل سليمان.
على الرغم من أن البحث لم يصل إلى نتيجة تؤكد الزعم الصهيوني، فإن عمليات الحفر استمرت، لا للبحث عن الهيكل السليماني، أو أي أثر ديني أو تاريخي لليهود، وإنما لتهيئة المسجد وقبة الصخرة، للانهيار في أي وقت.
اعتدنا السكوت عن توقعات الكوارث حتى تحل الكارثة بالفعل، فنتباكى على ما فات، ونبدأ التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
ذلك ما لم يفعله الشيخ عكرمة صبري.
وصلت محاولات إسرائيل لتهويد القدس، والأقصى، إلى حائط مسدود، فلجأت إلى جعبة المؤامرات تنسج خيوطًا جديدة، تفرض من خلالها صبغة عبرية على المدينة المقدسة، وما تضمه من مزارات دينية وسياحية.
شركات السياحة الإسرائيلية – بدعم حكومي وتمويل من الجمعيات اليهودية داخل إسرائيل وخارجها – تدعو مسلمي العالم إلى زيارة القدس، والصلاة في المسجد الأقصى، وزيارة حائط البراق، وإن سمي المبكى.
الهدف أبعد ما يكون عن الدين، فهو سياسى محض، يفقد أولى القبلتين، وثاني الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ما له من مكانة فى نفوس المسلمين والمسيحيين، ويتحول إلى مجرد مزار سياحي يختلط فيه القادمون لأسباب غير روحية، وهو ما يبين في المجمع السياحي الكبير الذي تعد بلدية القدس لإنشائه في ساحة البراق، على مساحة أكثر من أربعة آلاف متر مربع، إلى جانب افتتاح المقبرة اليهودية الكبرى، والحدائق التلمودية التي تعبر عن أساطير اليهود.
اتساقًا مع هذا المعنى، وضعت حكومة إسرائيل خرائط جديدة للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، تحولت – بقدرة الخداع الصهيوني – إلى مزارات سياحية، تبيع للزائر أسطوانات وكتبًا ومنشورات دعائية، تروج للأفكار والدعاوى الصهيونية، وتلغي ما يؤكد الانتماء الإسلامي والمسيحي، والعروبي بعامة. كل ما تتضمنه تلك الوسائل الدعائية ملامح يهودية مخترعة، تنسب القدس إلى الكيان الصهيونى.
لليهود – في المخططات الإسرائيلية – تطلعات تاريخية وسياسية ومادية، فزيارة مئات الألوف من أبناء العالمين الإسلامى والمسيحى للمعالم الدينية في القدس، تقرب المزاعم الإسرائيلية من الأذهان، وتحيل الأكاذيب حقائق، وتدر للخزانة الإسرائيلية أموالًا تتحول إلى أسلحة ومستحدثات علمية يضيف بها الكيان الصهيوني إلى تميزه بين أقطار المنطقة.
في أحاديث رسول الإسلام أن الرحال لا يكون إلى ثلاثة مساجد، أحدها المسجد الأقصى.. وهو ما يصعب – إن لم يكن من المستحيل – تحقيقه، في ظل المزاعم والدعاوى الإسرائيلية، التي تحاول سلب الأمة العربية كنوز مقدساتها.
أذهلنى قول الشيخ عكرمة إن التدمير هو مصير الجامع الأقصى إن حدث فى محيطه زلزال، مهما يكن ضعيفاً. هيأ الإسرائيليون المسرح جيدًا، ليسدل الستار – فى لحظة يتوقعونها – على الأقصى، بعد أن يتحول إلى أطلال. والبدايات نتعرف إليها في حماية الشرطة الإسرائيلية لجماعات المستوطنين عند اقتحامهم للأقصى.
ثمة لجنة مؤلفة من زعامات عربية وإسلامية، مهمتها درء المؤامرات الصهيونية التي تستهدف التراث الإسلامي في القدس، وأهمه – بالطبع – الجامع الأقصى وقبة الصخرة، لا لمجرد الحفاظ على تراث يعتز به المسلمون, بل لأنه تعبير عن مراحل مهمة في فجر العقيدة الإسلامية.
إن مجرد الصمت عما يتعرض له ثاني الحرمين يمثل خيانة، إن لم يكن بالفعل، فبالصمت، لأنه يعني التواطؤ!