»»
بقلم ✍️ أ.د جمال عبدالحميد زاهر
(أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة قناة السويس)
لعل من نافلة القول التأكيد على أن الحصيلة اللغوية والزينة البلاغية للقاضي والمحامي وغيرهما من أعضاء المنظومة القضائية كالماء الذي يروي الظمأ، والطعام الذي يسد الجوع، والدواء الذي يبرئ السقم، والهواء الذي ينعش القلب ، إنهما الزاد الأساس، والسلاح القويِّ، وطوق النجاة، والحِلْيةُ الجميلة التي تأخذ بالألباب، وتُبهر العيون، وتسر الناظرين.
وربما استمعتُ إلى مرافعة من محامٍ، أو تلاوةِ حُكم من قاضٍ، وكأنني أستمع إلى نص أدبي رفيع، فيه من البلاغة ونصوص القرآن والسُّنة وأبيات الشعر؛ ما يستميل الآذان، وينعش الوجدان، فيعظم عندي قدرُهما، ويَكبر في عيني شأنهما؛ لأنهما لم يَصونا حقوق العدالة فحَسب، ولكنهما صانا حقوق اللغة أيضا.
وإذا توقفنا عند القانون المدني المصري ،وأنعمنا النظر في صياغة مواده لوجدنا أننا أمام واحدة من أروع الصياغات القانونية، بما فيها من بلاغة وبيان، ما جعل كثيرا من مواد هذا القانون تنتشر انتشار أبيات الشعر والحكم ، ومثال ذلك:
(ليس لأحد النزول عن حريته الشخصية،
العقد شريعة المتعاقدين،
يفسر الشك في مصلحة المدين،
لا يضمن البائع عيبا جرى العرف على التسامح فيه.
رحم الله واضعه المستشار الجليل عبدالرازق السنهوري.
وكثيرة هي الأقوال المأثورة عن شيوخ القضاء التي تؤكد أهمية أن يتمكن رجال القضاء من اللغة والبلاغة:
-المستشار أحمد فتحي مرسي – نائب رئيس محكمة النقض المصرية ألقى محاضرة موضوعها “الأدب القضائي وقواعد اللغة” بتاريخ 31/8/1987م إلى أعضاء إحدى الدورات التدريبية قال فيها:
فالمشرع يحتاج إلى اللغة في صياغة القانون، ووكيل النيابة يحتاج إليها في المرافعة وكتابة المذكرات، والقاضي يحتاج إليها في كتابة الأحكام، العمل القضائي نصفه لغة ونصفه قانون، إن رجال القضاء لا يتمايزون فيما بينهم بالعلم بالقانون بقدر ما يتمايزون بالثقافة اللغوية والبلاغية.
-القاضي اللبناني غالب غانم رئيس مجلس القضاء الأعلى بلبنان قال :
“عندما تابعت طريقي في الحياة امتطيت جوادين لا جوادا واحدا هما القانون والأدب، وأشعر أن كلا منهما حياة للآخر ، فصورتهما في ذهني ارتسمت على هذا الشكل : نبض من القلب يحرك حشدا من العقل ،وسحر من اللغة يحتضن فيضا من الفكر”.
-المستشار وحيد رأفت : نشر مقالة بمجلة الهلال عن ” العلاقة بين الأدب والقانون” قال فيها:
“إن إحاطة القاضي باللغة والأدب وفن البيان والتعبير أمر لازم لزوم تمكنه من القانون ذاته , إن تحرير الأحكام القضائية فن لا يبلغه القاضي ما لم يكن لديه حصيلة كافية من الكلمات والمترادفات تسعفه باللفظ الذى يواتي المعنى المنشود دون زيادة أو نقصان”.
ومن أجل ذلك أولت المعاهد القضائية بالدول العربية، وعلى رأسها المركز القومي للدراسات القضائية بجمهورية مصر العربية أهمية خاصة للغة وأدرجتها في مساق برامجها التعليمية وقامت بتنظيم دراسات في بعض جوانبها.
ومن المواقف القضائية التي جملها الأدب وزينتها البلاغة :
– أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَشْكُوَهُ، وَهُوَ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَقَالَ لَهَا: نِعْمَ الزَّوْجُ زَوْجُكِ
فَجَعَلَتْ تكرر عليه القول وهو يُكَرِّرُ عَلَيْهَا الْجَوَابَ
فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ الْأَسَدِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَشْكُو زَوْجَهَا فِي مُبَاعَدَتِهِ إِيَّاهَا عَنْ فِرَاشِهِ.
فَقَالَ عُمَرُ: كَمَا فَهِمْتَ كَلَامَهَا فَاقْضِ بَيْنَهُمَا
فَقَالَ كَعْبٌ: عَلَيَّ بِزَوْجِهَا، فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتَكَ هَذِهِ تَشْكُوكَ
قَالَ: أَفِي طَعَامٍ أَمْ شَرَابٍ؟ قَالَ لَا
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ
يَا أَيُّهَا الْقَاضِي الْحَكِيمُ رَشَدُهْ أَلْهَى خَلِيلِي عَنْ فِرَاشِي مَسْجِدُهْ
زَهَّدَهُ فِي مَضْجَعِي تَعَبُّدُهْ فَاقْضِ الْقَضَا كَعْبُ وَلَا تُرَدِّدُهْ
نَهَارُهُ وَلَيْلُهُ مَا يَرْقُدُهْ فَلَسْتُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ أَحْمَدُهْ
فَقَالَ زَوْجُهَا:
زَهَّدَنِي فِي فَرْشِهَا وَفِيَّ الْحَجَلْ أَنِّي امْرُؤٌ أَذْهَلَنِي مَا قَدْ نَزَلْ
فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي السَّبْعِ الطِّوَلْ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْوِيفٌ جَلَلْ
فَقَالَ كَعْبٌ:
إِنَّ لَهَا عَلَيْكَ حَقًّا يَا رَجُلْ نَصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَقَلْ
فَأَعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ
فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ أَمْرَيْكَ أَعْجَبُ؟ أَمِنْ فَهْمِكَ أَمْرَهُمَا أَمْ مِنْ حُكْمِكَ بَيْنَهُمَا؟
اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
فكان الاتهام والدفاع والحكم كلها شعرا .
-وجلس الحجاج بن يوسف يضرب أعناق أسرى، فلما قدموا إليه رجلا لتضرب عنقه قال: والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو! فقال الحجاج: أف لهذه الجيف، أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا الكلام البليغ! وأمسك عن القتل.