»» بقلم ✍️ أ.د مها عبد القادر
(أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر)
إن معيار الحكم على الضمير الإنساني يقوم على اتساق قيمه مع ما يدين به المجتمع من نسقٍ يشكل ضميره وسلوكه الذي يرتئيه متناغما بمفردات العقيدة، ومن ثم صار الخلق الحميد طريقا لنهضة البناء السليم لأممٍ أرادت أن تمتلك الحضارة والتاريخ في صورتهما النقية والتي يتوارثها الأجيال تلو الأجيال ويفخرون بما حوته من مواقفٍ نبيلةٍ وأحداثٍ لها عظيم الأثر في النفس وامتدادٌ في الوجدان.
وجدير بالذكر أن صحيح تشكيل الوعي الصحيح بشتى صوره ومقوماته يؤسس على ما يعضد لدى الفرد من نسقٍ قيميٍ يحض على الإيجابية والتفاعل من أجل البناء والنهضة اللتان يقومان على عملٍ جادٍ مستدامٍ قائمٍ على معيارية الجودة وماهية الإتقان؛ فلا استسلام لتحدياتٍ أو أزماتٍ؛ فطريق الإعمار دوما ما يواجه معوقاتٌ تجعل الإنسان منشغلا بحلولٍ لها على مدار الساعة؛ فتلك طبيعةٌ في بني البشر الذي حمل الأمانة على كاهله منذ بدأ الخليقة.
والعمل الجاد حيال تحقيق صلاح وإصلاح المجتمعات يتوجب أن يقوم على مبدأٍ لا يحيد عنه؛ إذ ينبغي أن نضمن سلامة فطرة النشء من شوائبٍ أضحت محيطةً بالجميع، وهذا يؤسس على رؤية نشر الثقافة القويمة التي تنسدل من العادات الصحيحة والسليمة للمجتمع وما يرتبط بها من سلوكياتٍ تنظم طبيعة العلاقات والتعاملات الإنسانية وتضمن تعايشًا سلميًا يقوم على المودة والتراحم والحوار الهادف الذي يصل بنا إلى ما ننشده من صالحٍ عامٍ يرتضيه الجميع ويحرص على تحقيقه.
وليس هناك خلافٌ حول تقبل التباين الفكري والثقافي من الغير شريطة ألا تطغى ثقافته على هوية الأمة التي تتمسك بسياج الوسطية ويتغلغل في وجدانها الإيمان بالله الآمر بالمعروف وكل عملٍ يحض على مسار الخير ودروبه، والناهي عن المنكر وكل عملٍ وأمرٍ يضر ويورد النفس الإنسانية مورد الهلاك والبعد عن تعاليم الله عز وجل، ولا ضير من تبادل الخبرات بما لا يحدث شروخا أو تصدعا فيما نتبنى من نسقٍ قيميٍ يحض على الشراكة والتعاون والتكافل بكل صوره المبهرة التي تجعل نسيج المجتمع مترابطا ومتماسكا يقدس تراب وطنه، مهما تفاقمت عليه الأزمات واستعر لهيب الخلاف بالجوار.
إن عقولنا تمتلك مقومات التغيير الذي يستهدف التطور والتقدم والنهضة بمختلف مجالات الحياة مع الحفاظ على ماهية وكينونة الوسطية التي تقوم فلسفتها على وجهٍ واحدٍ لا يقبل التغيير أو التبديل أو الانفكاك وهو النسق القيمي الذي يعد السياج الحامي والواقي من الذين يأخذون على عاتقهم مهمة تغريب وتفكيك المجتمعات وبث الفتن وزرع قضايا الخلاف؛ كي يحققوا ماهية الاحتلال الفكري ومن ثم يسيطرون على مقدرات ما تمتلك تلك الأوطان سواءً كانت ماديةً أو بشريةً.
ولا جدال حول تسخير العلم وأدواته في خدمة البشرية وضرورة أن نتسلح بالعلم والمعرفة والفهم والوعي المسؤول، كي نتغلب على ما قد يواجهنا من تحدياتٍ أو مشكلاتٍ، في مقابل أن نغلف ونسبغ ممارساتنا بما نتبنى من قيمٍ وما نؤمن به؛ فلا فائدة من رفاهيةٍ أو تقدمٍ أو تطورٍ ناله مجتمع غاب عنه نسق قيم الوسطية والصلاح، وتبدلت ممارسته لتقوم على النفعية في صورتها الصرفة والصارخة، ومن ثم تصدعت ملامح الإنسانية وفقدت رشدها حيال ما ترى من ظلمٍ وعدوانٍ يقع على غيرها أو من توالي.
والمطالع لتاريخ الأمم يرى أن بقاء الحضارة يقوم على مبدأ الصلاح والإصلاح الذي يشتق من نسقٍ قيميٍ ينبع من خلقٍ كريمٍ يؤازر الحق ويدافع عنه ويناصره ليسود العدل والمساواة في ربوع المعمورة ويحارب الظلم والعدوان والقهر ولا يقبل بالدنيوية مهما بلغت مشكلاته؛ فالعزة والكرامة يشكلان قوة القضاء على التغيب والخذلان والعمل الجاد لبناء نهضة غير مسبوقة وفعل المستحيل وصولا لجودة الحياة ورفاهية المجتمع.
وينبغي أن ندرك حقيقة صورة النسق القيمي الصحيح الذي تتبناه المجتمعات الراجية التوفيق والسداد تجاه تحقيق أهداف رقيها وتقدمها ونهضتها بشكلٍ مستدامٍ؛ حيث الاهتمام بضروب المعرفة التي تجعل الإنسان قادرا على أن يحل مشكلاته ومعضل القضايا في مختلف المجالات، وأن يمتلك المهارة التي تقوم على عمق تلكما المعرفة العلمية، وأن يصنع قرارا ويتخذه في الوقت المناسب، ويختار من بين البدائل في ضوء معاييرٍ منهجيةٍ تساعده على تحقيق المرمى والغايات، وأن يكون قادرا على طرح الرؤي وعقد حوارٍ فاعلٍ بناءٍ يسهم في تأصيل لغة التواصل مع الآخر في ضوء ما تطرحه القيم من حميد القول والفعل على السواء.