أعادت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى البداية، إلى العام 1948 الذي أعلن فيه بن جرويون قيام دولة إسرائيل.
ذلك هو باب الجحيم الذي انطلقت منه المعارك والحروب والمؤامرات وعمليات التهجير والإبادة والمحو والعمالة والخيانة والانتفاضات والثورات والمقاومة المسلحة وغيرها من الأحداث التي عاشها عبر ما يزيد عن السبعين عامًا، ليس الشعب الفلسطيني وحده، وإنما الوطن العربي كله.
ساسة الغرب يتحدثون عن حق إسرائيل في الوجود، ويبنون على هذا الرأي ملاحظات، ينفيها أن حق الوجود هو – في حقيقته – للشعب الفلسطيني على أرضه، وما جرى في 1948 بدّل هذه الحقيقة تمامًا.
أذكر لقاء تليفزيونيًا مع السياسي الإسرائيلي شيمون بيريز، في أعقاب مذبحتي صبرا وشاتيلّا. قال بلهجة رافضة: لا تتكلموا عن الماضي. ثم تحدث – في اللحظات التالية – عن مزاعم أعدت في الحجرات المغلقة، وبدأ تنفيذها كعقائد تدعو إلى اجتثاث الغير، وإفنائه.
قامت دنيا الغرب ولم تقعد يوم السابع من أكتوبر الماضي. اهتزت التصورات التي شارك الغرب في صنعها، وبدا المشروع الصهيوني في أزمة من خلال تصريحات قادته، وأبرزهم جالنت الذي وصف ما جرى بأنه صراع وجود. تصريح لا يصدر عن زعيم سياسي يؤمن بأن الأرض التي يتحدث عنها هي أرضه التي لم يعرف سواها، ينتمي إليها كحلقة في سلسلة أجيال، بدايتها في عمق التاريخ، وتحققت هويتها من خلال موروث حضاري متميز.
لم تقتصر التصريحات على وزير الحرب الإسرائيلي، فقد فرض ” الوجود” نفسه على تصريحات الساسة الإسرائيليين، إنهم يتحدثون عن أرض ليست أرضهم، وهو ما لا يصدر عن سياسي يتحدث عن البلد الذي ينتمي إليه.
ولا يخلو من دلالة قول هيلاري كلينتون إن مواطني إسرائيل تجمع سكاني من 17 دولة، أي أنه – عدا الديانة – غير متجانس!
الاستيلاء على أراضي الغير، وادعاء ملكيتها تحت دعاوى أسطورية أو كاذبة أو مختلقة، جريمة تستحق الإدانة، فإذا أضاف الجاني إلى ادعائه بأن من حقه أن يدافع عن وجوده على الأرض التي اغتصبها، تمسي الجريمة مركبة، ويجب على المجتمع الدولي إيقافها، وإعادة الأرض السليبة إلى أصحابها.
لم تكن إسرائيل قبل إعلان الدولة العبرية – والقول لجولدا مائير – أرضًا بلا شعب، فاستولى عليها شعب بلا أرض، إنما كانت أرض شعب له تاريخه وتراثه وموروثه وواقعه ونضاله من أجل المستقبل.
تكفي الإشارة إلى أن جواز سفر مائير حتى إعلان قيام دولة إسرائيل، كان- باعترافها – فلسطينيًا، وصادرًا عن الدولة الفلسطينية.
مشكلة إسرائيل، إذا تجاوزنا أنها هى نفسها مشكلة فى الجسم العربى، أنها بلا حضارة حقيقية تدعى نسبتها إليها، فهى تحاول من ثم أن تخلق لنفسها تلك الحضارة. نسبت إليها الكثير من آداب العرب وفنونهم، وتاريخهم أيضًا. ادعى اليهود أن العبرية أصل العربية، مع أن المفردات في العبرية لا تزيد على الستة آلاف. وكان العبرانيون المتحدثون بالعبرية مجرد قبائل من البدو الرحل، يسعون وراء الماء والكلأ. والقول بأن العبرانيين هم القوم الذين عبروا الفرات أو الأردن، ادعاء تنقصه الحقيقة، فالنهران يعبرهما أعداد هائلة من البشر، ليسوا جميعًا من العبرانيين. وأتذكر نكتة أسامة الباز عن اليهودي الذي يدعى ملكية أرض ألقته المصادفة للسير فيها.
العبرانيون تسمية تطلق على بعض قبائل الرحل. وكانت العبرية لغة محكية، ومرتبطة بالتراث الديني اليهودي . بل إن الكثير من الكتابات الدينية لأحبار اليهود وعلمائهم فى مصر، كتبت باللغة العربية. حتى شروح التوراة، والتعليق على التلمود، استخدم اليهود اللغة العربية. كما كتبت وثائق الجنيزة اليهودية بالعربية في حروف عبرية. حتى الأهرامات زعموا أنهم بنوها زمن الفراعنة ( أذكرك بلقاء الرئيس السادات وبيجن في الإسماعيلية ). وقد طالت وقفتى أمام المعابد المصرية القديمة، المتطابقة لما تبشر به وتنذر الأديان السماوية: الموت والبعث والحساب والصراط والميزان والجنة والنار.. ذلك كله ينتسب إلى قبائل الرحل القديمة. وتاريخيًا، فإن المعابد اليهودية الحالية، والمذابح بداخلها، مأخوذة عن المعابد والمذابح الفرعونية.
إسرائيل تتعمد خلط الحابل بالنابل ليصبح تراث المنطقة العربية تراثًا لها، فهو – كما تسميه – تراث الشرق الأوسط، وهى دولة من دول الشرق الأوسط، وتغيب الصفة العربية، لتحل بدلاً منها تسمية أخرى، بحيث يسهل على إسرائيل أن تنسب – من خلالها – تراث المنطقة إليها. ولعلى أشير إلى المهرجان الذي أقامته إسرائيل في يونيو 2000 تحت شعار ” إعادة تراث الشرق الأوسط ” !
لقد تخلى اليهود عن اللغتين العبرية والأرامية، واتخذوا اللغة العربية أداة للتعبير، حتى في شروح وتفسيرات التوراة والتلمود. دليلًا مؤكدًا على غلبة الثقافة العربية، وإسهامها الريادى. إن تعبيرات مثل: الأدب اليهودي، الشعر اليهودي، الفن اليهودي، الثقافة اليهودية، ليست إلا محاولة لإيجاد جذور فى تربة تعانى الأكذوبة والأسطورة والتعصب .
إسرائيل تريد أن يكون لها ثقافتها، ولأنها بلا ثقافة أصيلة – فيما عدا بعض الدعاوى الأسطورية! – فإنها تريد أن تنتسب إلى الثقافة العربية، لا باعتبارها كذلك، وإنما باعتبارها ثقافة شرق أوسطية. إنها تحاول إيجاد جذور تراثية مزعومة في التربة العربية، تذيب ثقافة المنطقة لصالح خوائها الثقافي، تخترع هوية ثقافية بالسطو على ثقافة تختلف – بالتأكيد – عن ثقافات متباينة بتباين الأقطار التي وفدت منها قوافل المستعمرين اليهود.
تصريحات نتنياهو متكررة عن رفضه – صراحة – لإقامة دولة فلسطينية، وأخذ على جانتس تأييده لإقامة تلك الدولة.
وللأسف، فإن الإلحاح على مفاوضات حل الدولتين، يقابله استنكار القادة الإسرائيليين لذلك الحل، يرفضون مجرد تصور الدولة الفلسطينية، وهو ما انعكس في تصريحاتهم المعلقة على اعتراف دول أوربية بالدولة الفلسطينية.
ويظل الفلسطينيون لاجئين في وطنهم، سلطة لا تملك القرار، ويحصل قادتها في تنقلاتهم على تصاريح، ويلزمهم الاتفاق الأمني بينهم وبين حكومة إسرائيل، مساعدات في الإجراءات الأمنية من تصد للمظاهرات واعتقال وتقديم المقاومين إلى سلطة الاحتلال. أما الشعب فإنه يرضخ للحياة في السجن الكبير، ويعاني افتقاد أبسط الحقوق الإنسانية.