»»
ومع المعين الفياض لأدباء ومواهب أرض الكنانة يتجدد اللقاء وعبر هذه السطور تنشر منصة المساء أون لاين نصا نثريا بعنوان :“من أسْرارِ السَّعادةِ”
في ثياب قصصي للأديب أشرف بدير من كتابه “بوح القمر”.
🍂
من أسْرارِ السَّعادةِ
بقلم ✍️ أشرف بدير
أيَّة لذَّة تلكَ التي كنا نعيشها آنَ كنا صغاراً ؟! عندما كنا نلهَث وراء هذا الطَّيف، الذي لمْ نكنْ نعرف له اسمًا أو وصفًا، فقط كنا على استعدادٍ لفعلِ أي شيءٍ، كي نَحْظى برضاءِ المحيطين بنا، و نَسْعد بلقائهم، و العيش بجوارهم..
أتذكَّرُ جدَّتي؛ تلك العجوزُ التي كانت تستيقظ في جَوفِ ليلٍ قارس البرودة، فتتوضأ لتصلي الفَجر حاضرٍا في كل ليلةٍ، بلا انقطاع صيفًا و شتاءًا، ثم كانت تُتَمتم بكلماتِ الاستغفارِ و الذِكرِ حتى الصباح، كنتُ أرْقُبها بشَغَفٍ و هُدوءٍ مُنْدهشًا مما تفعل، و كنت أتساءل مع نفسي، تُرى ما سِرّ سعادة جدَّتي من فعل تلك الأمور اليومية المرهقة؟!، و هي في حِلٍ منها، و بعدما كبُرتُ قليلًا، وجدتُّني أفعلُ ما كانت تفعله، بالحالةِ ذاتها من النَّشوةِ و اللَّذةِ و السَّعادةِ، التي كانت عليها جدَّتي، و أيضًا لمْ أدْرِ حتى الآن سِرٍّا لتلك السعادة، التي تَسْري في عروقنا، فتجعلنا نعيش في رِضاءٍ وسَلامٍ دائمٍ، مع الله، ومع النفس، ومع الآخرين.
ثم، لَمْ أدْرِ أيضًا سِرا لتلك النَّشوة، التي كانت تسيطر عليَّ، و أنا في مراحل التعليم الأولى، فتجعلني أحْرِص على أنْ أستيقظ مبكرا، و أهندم الزِّي الرسمي المدرسي، و أُمشِّط شَعْرَ رأسي الطويل جدًا – آنئذ – لأجعله منسدلًا على عيني فلا أكاد أرى أمامي، ثم أتوجه إلى مَدرستي الابتدائية، مُمَنِّيًا نفسي بالحديث مع تلك الفتاة النَّحيلة، هادئة الطباع، و لمْ أتوقف يومًا عن عادتي الصَّباحية تلك، و لمْ يَحْدُثْ ما كنت أتمناه يومًا، فلم أتحدث معها، و لم أَدْرِ أيضًا حتى الآن سِرًّا لهذه المشاعر، و لمْ أعلم مُسَمَىً لها، سوى إنها كانت تمنحني السَّعادة دائمًا.
ثم .. عندما كَبرْتُ أكثر و التَحَقْتُ بالجامعة، لمْ أدْرِ أيضًا سِرَّاً لتلك الحالة التي كانت تُلِمّ بي، فتجعلني أرْتَجِفُ كثيرًا، و أتصَبَبُ عَرَقا، عندما كانت تَمُر تلك الفتاةُ من أمامي، من دون حديث متبادل بيننا، حتى حدثَ في بداية العام الأخير، أن أقْبَلَتْ عليَّ، وقالت في لُطْفٍ، هل يُمْكنكَ أنْ تُساعدني في حَلِ تلك المسألة القانونية المُعقَّدة؟ ففعلتُ بدون أنْ أرفع ناظِرَيّ نحوها، أو أوَجِه إليها كلمةً واحدة، ثم لم يتكرر الأمرُ بيننا ثانية، إلا أنني ظللتُ في حالة من النَّشوة، التي أعطتني جَرْأةَ مجرد النظر نحوها على استحياءٍ، من آنٍ لآخر، حتى نهاية العام، و لم أدْرِ أيضًا سِرًّا لتلك المشاعر، و لا أعرف مُسَمَىً لها حتى الآن، سوى إنها كانت تمنحني بعض السعادة الغامرة.
ثم، في مرحلة متأخرة من العمر، لمْ أجدْ مبررًا لتلك المواقف، و تلك الأعمال التي أقوم بها تجاه الآخرين، و التي قد يُصنِّفها البعضُ جُنونا أو رِياء أو استعراضًا لا مبرر له، و برغم أنني لا أعبأ كثيرا بظنِّهم هذا، إلا أنَّني لمْ أجدْ مبررا لما أفعل سوى إنها تُمثِّلُ سِرا من أسرار السعادة لنفسي و للآخرين، التي أنشُدُها من وراء ما أقوم به، من تلك الأعمال والمواقف، ولو وَصَمَني بعضهم بالجنون .
تلك الفُصولُ التي نتوقَّفُ عند مفارقِ دُروبِها، فلا نستطيع أنْ نَسْلك أيًّا منها، تماما كما نجد أنفسنا أحيانا نعيش في سلام بين أشياءٍ متناقضة في الوقت ذاته، كما الحقيقة و الخيال، و الليل والنهار، و النور و الظلام، و الحب و الكراهية، تلك المتناقضات التي تحيطُ بنا، و لا نستطيعُ التأقلم معها، سوى إننا مُكْرَهين على العيش فيها، من دون أنْ ندري سِرًّا لذلك، سوى أنَّ علينا أنْ نعيش الحياة بِحُلوها و مُرِّها، حتى يمكننا أن نشعر بالسعادة، بدون أنْ نبحث عن الاسبابِ و الأسرارِ من وراءِ كل ذلك.