يمكن القول أن كتاب الدكتور (أحمد سعد جريو) المعنون بـ«الإعلام التربوي وتنمية قيم المواطنة» يكتسب أهمية خاصة في مسيرة الدراسات الإعلامية – التربوية -الاجتماعية، ذلك أنه منذ عنونة موضوعه وهو يتداخل مع ثلاث محاور رئيسة، محور الإعلام، الذي أصبح له أهميته الخاصة وصبغته المتمايزة في العصر الذي نعيش فيه، ومحور التربية، التي يعتمد عليها المجتمع في تهذيب وتهيئة الأجيال الناشئة لتولي مسئولية المستقبل، ثم محور المواطنة، وهي إحدى المصطلحات الإشكالية في زمننا الراهن، والتي رغم وضوح المعنى المستبطن بداخلها من كونها المعيشة لحياة متساوية الحقوق والواجبات بين مختلف عناصر المجتمع إلا أن تعريفاتها تتشعب، وسبل تحقيقها في أرض الواقع تتنوع، ودراسة مظاهرها تتخذ منحى لا نهائي، خاصة مع المتغيرات التي ضربت المجتمع المصري منذ تسعينيات القرن الماضي مع الفكر المتطرف والمتشدد الذي هدد حياة المصريين، ووجه سهام عدائه إلى الكنائس والمسيحيين ورجال الشرطة وغيرهم من أبناء المجتمع المصري.
ولا يمكن لباحث أن يضرب بسهمه في هذه المجالات إلا إن كان متمكنا من ممارسة هذه الحقول، وهي الصفات التي اجتمعت في الدكتور (أحمد سعد جريو) من كونه متحدثا إعلاميا، مثَّل الكثير من المؤسسات والجهات والهيئات في العديد من الندوات والمحافل، كما أنه رجل تربوي، فهو ابن بار من أبناء التربية والتعليم بجمهورية مصر العربية، وهو باحث في مجال أصول التربية، ومفكر يطرح رؤاه المختلفة عن المجتمع المصري، كما أنه عضو المجلس الأعلى للثقافة بلجنة التراث، وهي صفات عندما تجتمع في شخص نتوقع منه الإسهام فيما يعجز الغير عنه؛ لذا فإن هذا الكتاب ثمرة جهد وممارسة حية مارسها مؤلفه في أرض الواقع، مع التزامه بقواعد العلمية والإجراءات البحثية، فجاء في أربعة فصول أساسية، تناول في الأول مفاهيم الإعلام التربوي والمواطنة واستعرض البحوث والدراسات التي تناولت ذلك، ثم في الثاني، ناقش فلسفة الإعلام التربوي، وفي الثالث ناقش قضية المواطنة، ثم في الرابع والأخير تحدث عن دور الإعلام التربوي في المدرسة الثانوية كسبيل لتنمية قيم المواطنة لدى طلاب المرحلة الثانوية.
ويرى (جريو) أن تعليم المواطنة يسهم في مساعدة الأفراد لاكتساب الثقة بالنفس، ويساعد على المشاركة الإيجابية في الحياة والمجتمع، ويشير إلى ارتباط مفاهيم المواطنة بأزمة الهوية التي يمر بها الإنسان عادة في مرحلة المراهقة، ورغم هذه الأهمية فإن المناهج الرسمية، والأنشطة التربوية تخلو مما يعين الطلاب على فهم المواطنة، واكتشاف الذات، كما أنه يمكن لوسائل الإعلام المختلفة أن تلعب دورا كبيرا في مساعدة النشء على اكتشاف الذات، وعلى تخطي أزمة الهوية، وعلى اكتساب قيم المواطنة، والحقيقة أن وسائل الإعلام أحد أهم الأدوات التي يجدر النظر إليها بعين الاهتمام والاعتبار ذلك أنه إذا لم تحقق وسائل الإعلام دورها، وإذا لم تنجح في توصيل الرسالة المنوطة بها، فإن ذلك يؤدي إلى أثار سيئة على المجتمع، أدناها الشعور بالإحباط النفسي في الوجدان العام للمجتمع على أقل تقدير.
وقد استطاع (جريو) في هذا البحث التقاط معنى جوهري للإعلام التربوي يلخصه في قوله: « هو كل وسيلة اتصال مباشر أو غير مباشر يتحقق من خلالها مضمون الرسالة التربوية و التعليمية بطريقة مؤثرة بهدف تنوير الرأي العام للطلاب وإدراكهم للقضايا المختلفة وتنمية مهارات النقد و التحليل للمعلومات التي يتلقونها في ظل الثورة المعلوماتية.»، ومن ثم فهو ينظر للإعلام التربوي عن طريق ما يستطيع أن يحققه من أهداف وفائدة للمتلقي، وذلك هو ما يحدد أهميته من منظوره، فهو يحقق التنمية الفكرية المنشودة لدى المتلقي، وهنا تتداخل الأدوار، فالإعلام يصبح وسيلة من وسائل التربية داخل البيئة المدرسية، كما أن التربية تصبح رسالة من رسائل الإعلام، والحقيقة أن الإعلام التربوي يتسع مجال نشاطه بين داخل المؤسسات التعليمية وخارجها، لكن تركيز (جريو) هنا على العمل داخل البيئة المدرسية، سواء من خلال الإذاعة المدرسية أو الصحافة أو المسرح والتليفزيون المعاصر مع تطور القدرة على التوثيق باستخدام الفيديو، ولا يغفل عن صفحات التواصل الاجتماعي التي استحدثت مع الطفرة التكنولوجية الحديثة، ليحتسبها أيضًا ضمن وسائل الإعلام التربوي.
وبمهارة حاذقة يلتقط بعض الصعوبات التي تواجه العاملين في هذا الحقل، يصغها في تلخيص بليغ فيقول: « الإعلام التربوي يواجه مشكلات تتلخص في قلة الإمكانيات المتاحة سواء البشرية المتمثلة في أخصائي الإعلام التربوي وتدريبهم في المدارس على تخطيط وتنفيذ البرامج بالإضافة إلى عدم إيجاد بعض العاملين في الحقل التعليمي والتربوي وأولياء الأمور بدور الإعلام التربوي، أو كانت مادية تتمثل في ضعف الدعم والميزانية وقلة الإمكانيات التقنية والأجهزة اللازمة للإعلام التربوي. وأن المشكلات التي تواجه الإعلام التربوي تتمثل في الهيكلة الإدارية لإدارة الإعلام التربوي والمخصصات المالية لها وعدم وجود رؤية واستراتيجية واضحة لإدارة الإعلام التربوي على المستويين القومي والمحلي».
كيف يمكن إذن في ظل هذه المتغيرات أن يسهم الإعلام التربوي في غرس قيم المواطنة؟ هل عبر تعريفه بحقوقه وواجباته التي أقرها الدستور؟ هل تساعده في السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية؟ وكيف تحقق ذلك وهي تعاني من مشكلات كبيرة؟ إن القاعدة الأساسية أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وهذه القاعدة مهمة للمجتمعات التي تعاني مشكلات في التقدم، ولعل أول السبل الداعمة لتحقيق استفادة من الإعلام التربوي في أرض الواقع فهم عملية الإعلام ذاتها، وفهم الغاية التربوية وسبلها، وإدراك المواطنة وحقيقتها، ومن ثم فإن هذا الفهم يساعد في سد الفجوات الناقصة في أرض الواقع، إن الإعلام التربوي يمكنه أن يلعب دورا كبيرا في تأكيد الهوية والانتماء الوطني، ومن ثم تسهم في استقرار المجتمع. والمجتمع المصري بعامة من أقدم المجتمعات التي عرفت معنى المواطنة في ظل رسوخ الدولة المركزية فيها منذ فجر التاريخ، لكن هذه القيم تعرضت لبعض من الانتقاص مع هجمة الفكر المتطرف مع تسعينيات القرن الماضي، ومع متغيرات الحداثة وانفتاح السماوات الفضائية وتعدد وسائل البث غير المسئولة، كل ذلك يمكنه أن يقدم رسالة إعلامية غير مسئولة تؤثر على هوية النشء ومفاهيمه القومية والوطنية.
ترى كيف يمكن أن نتعلم المواطنة؟ هناك عدة سبل لتحقيق ذلك، منها ما نقله لنا (جريو) من توصيات مؤتمر جامعة جنوب الوادي الذي أقيم في الخامس عشر من مايو عام 2017م، والتي يمكن تلخيصها في: القوافل، والدورات التثقيفية، والعمل التطوعي، وتشجيع المبادرات الأهلية، وعقد المؤتمرات، ثم يشير بعد ذلك إلى الأزهر الشريف، وما أعلنه في مؤتمر الحرية والمواطنة، من التأكيد على أن أول ممارسة مارسها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة كانت تحث على قيم المواطنة واحترام حقوق جميع القاطنين في المدينة أيًّا كانت دياناتهم، لا تفرقة ولا اقصاء لأي أحد، ويحذر (جريو) في دراسته من مصطلح الأقليات، فهو مصطلح ضار يهدد أمن المجتمع. ثم ينتقل للتعريف برؤية الكنيسة الأرثوذكسية بوصفها مؤسسة تربوية لها دورها في تنمية قيم المواطنة، وهي تؤكد في رؤيتها على تكوين الشخصية المتكاملة، القادرة على الحياة والحركة مع الأصدقاء والزملاء والمواطنين، ورعاية كافة الجوانب الروحية والتعليمية والثقافية في المجتمع المصري، مع التأكيد على فضيلة المحبة لله، وفي لمحة ذكية يشير إلى تاريخ الكنيسة المصرية العامر بالوطنية، مستشهدا بما شهدته عصور الحروب الصليبية في فترة لا تقل على ثلاثة قرون لم تنظر الكنيسة إلى هؤلاء الصليبيين إلا على أنهم غزاة محتلون.
يعدد الباحث العوامل التي تؤدي لضعف قيم المواطنة، فيذكر منها: اهتزاز النسق القيمي، والبطالة، وغلبة مفاهيم الفردية والنرجسية، وأن هناك خللا في قدرة الكبار على توصيل مفاهيم المواطنة إلى الصغار. ومن ناحية تربوية؛ فإن الضعف العام الذي أصاب المدرسة المصرية في القدرة على توصيل رسالتها انعكس ضمنيا بالسلب أيضا على توصيل رسالة المواطنة، وشاعت ظاهرة الدروس الخصوصية التي تخلو من القيمة التربوية، وتركز فقط على المحتوى التعليمي، ومع قلة الإمكانات وضعف ممارسة الأنشطة المدرسية كل ذلك ينعكس سلبًا على تكوين الشخصية السلوكية السليمة.
وفي الفصل الرابع بعدما يستعرض (أحمد سعد جريو) القوانين المنظمة للمرحلة الثانوية، يشير إلى أن هذه المرحلة تصاحبها أيضًا فترة المراهقة، وهي فترة لها سماتها الخاصة، وخصائص النمو في هذه المرحلة، تتزامن مع تنوع أهداف المرحلة الثانوية، والتي من بينها إعداد الطالب في هذه المرحلة للحياة بجانب إعداده للنواحي الأكاديمية والعلمية، كل ذلك يأتي في فترة تمتاز بأنها فترة انفعالات، تصاب شخصية الطالب فيها بتقلبات كثيرة، وحساسية تجاه النقد، وتحول جسماني يقربه من عالم الكبار، مع محدودية الخبرة، ومع بحث فطري عن تحديد القيم والدفاع عنها بقوة، وربما بدأت عنده بعض الميول والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والمجتمعية في تلك الفترة.
هنا يكون للإعلام التربوي دور مضاعف عن باقي المراحل الدراسية، فوسائل الإعلام التربوية لكونها وسائل تربية غير مباشرة، يمكنها أن تسهم في ترسيخ القيم والعادات والتقاليد، والتأكيد على الولاء والانتماء واحترام الآخر، والوطنية، ويناقش (جريو) في سبيل تحقيق ذلك دور أخصائي الإعلام التربوي داخل المدرسة الثانوية، من تكوين الجماعات الإعلامية، ووضع خطة لها، وبرنامج زمني، وتوزيع الأدوار، وإعداد مشروع الموازنة وأوجه الصرف، والإشراف على برنامج الإذاعة المدرسية اليومي، وإصدار الصحف المختلفة: صحيفة الفصل، صحيفة المدرسة، صحف المناسبات، صحف المواد الدراسية، صحف جماعة النشاط بأشكالها المختلفة والمتنوعة من: صحف حائط، مجلات طائرة، مجلات الربع ساعة، المجلات المطبوعة، سبورة الأخبار، البحوث الصحفية، وتنظيم المعارض وتبادل الزيارات، والمشاركة في المسابقات، وتدريب الطلاب على اجراء الأحاديث، وغيرها من الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها الطلاب تحت اشراف أخصائي الإعلام التربوي في المدرسة؛ وبجانب هذا يوجد المسرح المدرسي، الذي يعد وسيلة فاعلة لتقديم الأفكار والرؤى والمعتقدات، فالتمثيل أحد أهم الوسائل التي يمكن استخدامها لتحقيق الشفاء النفسي، والمسرح المدرسي كوسيلة إعلامية تربوية يستطيع أن يساهم في غرس وتنمية قيم المواطنة.
إن إحدى المشكلات الرئيسة التي تواجه الإعلام التربوية وفق ما يذكره الدكتور (جريو): الإعلام المضاد، أو الرسائل السلبية في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وما تقدمه من صورة ذهنية عن العملية التعليمية في المدارس من ناحية، وعن المعلمين والطلاب من ناحية أخرى، ومن ثم فإن هناك تأثرًا مسبقًا برسالة سلبية قد تكون حاملة لقيم نقيضة للقيم السليمة القويمة التي تسعى المؤسسات التربوية إلى غرسها في طلابها، فكثيرًا ما تُضفِي وسائل الإعلام المحلية والعالمية أهمية على ما لا يستحق الأهمية، أو تقدم أحداثًا زائفة، أو رؤية غير قويمة تجاه بعض القضايا المجتمعية، وكل ذلك يضيف حملًا كبيرًا على وسائل الإعلام التربوية في مواجهة هذه المعلومات المغلوطة، وهذا الغرس غير السليم لقيم تهدد أمن المجتمع؛ لذا فإننا نتفق تماما مع الدكتور (أحمد سعد جريو) عندما يخلص من بحثه إلى: « لذلك نرى أن تتولى وسائل الإعلام التربوي المختلفة مهمة غرس وتنمية قيم المواطنة لدى طلاب المرحلة الثانوية العامة».
إننا نقف معه في مطالبته لواضع المنهج التربوي، بأن يعط لوسائل الإعلام التربوي دورًا وأهميةً وثقلًا في عملية توصيل الرسائل الأخلاقية، والقيم الوجدانية والروحية، وعلى رأسها قيم المواطنة والولاء والانتماء عبر وسائل الإعلام التربوي المدرسية، مع إتاحة قدر أكبر من الحرية للقائمين عليها، وإعداد الأدلة الكافية في هذا الشأن، والتوسع في الميزانيات المخصصة لها، ومرونة في تحقيق وسائل الصرف، وقياس الأثر، والاهتمام بالكيفية التي يتم بها إعداد أخصائي الإعلام التربوي، حتى نستطيع أن نحقق من ذلك فاعلية أكبر في مؤسساتنا التعليمية، وأعتقد أن ما يطلقه (أحمد سعد جريو) هنا عن واقع المدارس المصرية يمكن أن يقال عن كافة المدارس العربية في مختلف المجتمعات والبلدان العربية، وإن كان من خطوة أبعد في هذا المجال، فربما نحن بحاجة إلى دراسة مقارنة بين واقع وسائل الإعلام التربوي في المؤسسات التربوية في العالم العربي، وهذه المؤسسات في المجتمعات الغربية والشرقية وفي الحضارات الأخرى؛ لنعرف كيف تستفيد منها المجتمعات المتقدمة، وما هي الرسائل التي تقدمها لطلابها، وما هي الوسائل التي تعتمد عليها، وبالتأكيد للدكتور (أحمد سعد جريو) كل التقدير على هذا الجهد في مجال قل سالكوه، وصعبت دروبه، ووعرت طريقه، وما يزال يحتاج للكثير من الدراسات التي تنير الدرب للمهتمين به، والمتخصصين فيه.