لعلك تابعت ما بثته وسائل الإعلام – مؤخرًا – عن قرب توحد فصائل المقاومة الفسطينية، نهاية للاجتماعات التى جرت في بكين برعاية الحكومة الصينية.
والحق أن المصالحة الفلسطينية ستظل كلامًا معادًا، وبلا جدوى حقيقية، ما لم يقترن برؤية واقعية لتطورات الأحداث، والخطوات التي ينبغي اتخاذها بحيث تستند المصالحة إلى دعامات قوية، وتلغي عوامل الفرقة والاختلاف، وتتفاعل مع مصالح الشعب الفلسطيني، وسعيه – الذي دفع ثمنًا له عشرات الألوف من الشهداء – لاسترداد أرضه وحريته.
الصورة الحالية للمشهد الفلسطيني هي الاحتلال الصهيوني، إذا كان وجوده معلنًا في الضفة الغربية، فإنه يبين عن وجوده في غزة بالحصار والإغارات وعمليات الاغتيال الفردي والجماعى، وهو ما تجاوزه الاحتلال منذ الثامن من أكتوبر – بحرب إبادة معلنة.
تعددت جلسات الحوار بين المنظمات الفلسطينية، وطال الأخذ والرد، والشروط والشروط المضادة، وصدرت بيانات تتمسح بالنية المخلصة، وبحتمية السعي لصالح القضية الأهم، وهي توحيد العمل السياسي من خلال برنامج له استراتيجيته وتكتيكاته، بحيث يصبح العمل بهذا البرنامج التزامًا لكل فصائل المقاومة.
الثوابت الفلسطينية محددة، وفي مقدمتها حق التمتع بالمواطنة الكاملة لعرب الداخل، وعودة فلسطينيي الشتات، وعودة القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وإذا كان البعض قد وجد فى التنازل سبيلًا للحصول على ما يمكن أخذه من هذه الثوابت، فإن التجارب علمتنا أن التنازل طريق له نهاية معلومة.
الأمثلة نجدها في فيتنام، بانصهار كل المقاومين في تنظيم موحد، وفي محاربة أبناء نلسون مانديلّا لعنصرية البيض في جنوب إفريقيا، وفى الجزائر، عندما توحدت كل التنظيمات فى جبهة التحرير الوطنى الجزائرية، واجهت ثورة الجزائر – عند قيامها في خمسينيات القرن الماضي – تحديين، أولهما إصرار المستوطنين الفرنسيين على أن الجزائر فرنسية، وهو زعم الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ احتلال الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر، وعانت فكرة الاستقلال وحق تقرير المصير- حتى في العهد الديجولى – أقسى صور العنف. أما التحدي الثاني، فقد تمثل في تشرذم جماعات المناضلين لانتزاع حرية الجزائر وعروبتها.
لم تطلق الثورة رصاصتها الأولى إلا بعد أن واجهت التحدي الأول، بتوحيد جماعات المقاومة في جبهة واحدة، هي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. أسقطت الجماعات خلافاتها الأيديولوجية، وتوحدت في تنظيم موحد، جعل الحصول على استقلال الجزائر هدفه الأهم، باعتبار أن خلافات العائلة الواحدة ينبغي إرجاء طرحها في ظل خطر إلغاء الوجود. استطاعت جبهة التحرير أن تقود شعب الجزائر في نضاله لانتزاع حريته وعروبته، حتى تحقق هدفها، ثم أبانت الجماعات عن تباين أيديولوجياتها في معالجة القضايا الداخلية.
إذا جعلت مفاوضات فصائل المقاومة الفلسطينية من التجربة الجزائرية مثلًا لها، وشهدت نهاية الخلاف بين الفصائل مثلاً لها. فسيصبح الهدف النهائي، والوحيد، تحرير الأرض. لا معنى للاختلافات والمناقشات العقيمة والمزايدات ومحاولات التوريط والتنابذ بين أبناء الوطن الواحد، ممثلين فى توزع الجماعات والفصائل.
تكرر الكلام عن ضرورة وحدة تنظيمات المقاومة، بعيدًا عن تبادل القبلات، وعبارات المجاملة، وتأكيد كل طرف على ضرورة وحدة الفصائل الفلسطينية، حتى يتخلى المفاوض الإسرائيلي عن زعمه بأنه لا يجد في تعدد المنظمات من يفاوضه، ويطمئن إلى القرارات التي تتخذ لحل القضية الفلسطينية.
بدت المصالحة أقرب إلى قبضة اليد. لكن توالي الأعوام دون أن تشهد جهود المصالحة انفراجة حقيقية، كانت تعيدنا إلى نقطة الصفر، أو المربع الأول كما يقول التعبير الشائع.
بالطبع، فإن تمسك كل طرف بموقفه، يعنى الوصول إلى لا حل. فرق بين من يعلن اعترافه في رام الله أن أرض إسرائيل هي ما استولت عليه، وأنه سيزور مدينته صفد، مثل أي سائح أجنبي، ويعود إلى رام الله.. وبين من يعلن في غزة أن هدف المقاومة هو استرداد أرض فلسطين من البحر إلى النهر.
بالإضافة إلى ذلك، فثمة من اندسوا على حركة المقاومة الفلسطينية، وأفسدوا العلاقات بين التنظيمات المختلفة، ومنها فتح وحماس.
ظل الاختلاف الجذرى بين وجهتى نظر حماس وفتح يشير – لفترة طويلة – إلى صعوبة تلاقى الخطين المتوازيين، وكانت مهمة الوسيط المصري، والعربي بعامة، تحديد الخطوات المستقبلية، باعتبار أن السياسة فن الممكن، وليست فن التنازل، وأن الهدف الاستراتيجى لا يلغى الخطوات التكتيكية.. لكن: كيف؟ وإلى أى حد؟
المنطق الوطنى، الموضوعى، يفرض الأهم، فالمهم. الأهم الآن أن تجاوز الفصائل الفلسطينية تحدى التشرذم لتواجه تحدى الاحتلال من خلال منظمة التحرير الفلسطينية التي يجب أن تصبح كل الفصائل كيانات عضوية فيها.
لا أعنى إهمال المصارحة والمكاشفة، فلابد أن يطرح كل طرف ملاحظاته على الطاولة، عوامل الإيجاب والسلب، فضلًا عن تجاوز من أفادتهم القضية دون مقابل من أي نوع، إلا إذا اعتبرنا محاولات الفرقة والانقسام هي ذلك المقابل المرفوض.
الحقيقة التى يجب أن تطمئن إليها ضمائر الجميع أن الشعب الفلسطينى هو أشد الشعوب بذلًا في عالمنا المعاصر، بالشهادة والتهجير والنفى والتدمير والإفناء.
إن للسياسة الإسرائيلية استراتيجياتها وتكتيكاتها، وعلى الفصائل ألا تخدعها التكتيكات، من مثل الانتصار لفصيل على آخر، لأن الاستراتيجية الصهيونية – في تصرفات قادتها وأقوالهم وشعاراتهم – لم تتبدل، ولن تتبدل، إلا إذا أدرك قادة إسرائيل أنهم يواجهون شعبًا له قيادته الموحدة، لا العديد من الجماعات التي يسهل ضربها، وأساليب الصهيونية في ذلك – كما نعلم – لا نهاية لها.