»»
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات أدباء المحروسة ،وبإطلالة مبدعة في ثياب القصة القصيرة أهدي الأديب مدحت الخطيب “المحامي” منصة “المساء أون لاين” غيضا من فيض إبداعاته عبر قصته “المعايرة”، ننشرها عبر هذه السطور..
🍂
المعايرة
كانت فائقة الجمال، من نسل طيب، على خلق ودين، فاجتمعت فيها صفات الزوجة الصالحة، فتسابق الخطاب إلى بابها ولم تكن حصلت بعد على شهادة الثانوية العامة، ولكنها لم تكن تستعجل الزواج، ولم تكن تفكر سوى في دراستها ومستقبلها.
وجاءها بعد التخرج من الجامعة أحد المعيدين يخطبها، وصارت تستعجل الأيام حتى يستكمل تأثيث الشقة، ويتم الزفاف، وفي كل يوم تحلم بتحولها من فتاة بكر إلى امرأة ثيب، كانت تحلم بالأمومة، وأطفال تحملهم على صدرها، وتوقف حياتها عليهم، وتسهر الليالي من أجلهم.
وقد احتفلت قبل يومين مع زوجها بعيد زواجهما السادس، وقد كان احتفالا رائعا، شاركهما فيه الأهل والأقارب والأصدقاء والمقربون من المحبين، ورغم أنها كانت في قمة السعادة، إلا أنها كانت تفتقد شيئا، وكانت تعتقد أن الاحتفال رغم حلاوته، إلا أنه كان ينقصه هذا الشيء.
كانت تهتم أكثر ما تهتم بالأطفال، فتحضن هذا وتقبل ذاك، وتعطي هذا ابتسامة، وتعطي ذاك قطعة من الحلوى، وفتحت لهم غرفة الأطفال وتركتهم يستمتعون بما فيها من الألعاب والدُمى، وهي سعيدة بذلك كل السعادة، ولكنها كانت تشعر بشيء مفقود من داخلها.
نعم .. فَحُلُم حياتها لم يتحقق حتى اليوم رغم أنها أَجْرَت العديد والعديد من الكشوفات والفحوصات والتحاليل والأشعات الطبية، وتناولت من العقاقير والأدوية ما يكفي لعلاج مدينة بأكملها، بل ودخلت غرفة العمليات لإجراء عملية أطفال الأنابيب والحقن المجهري، ولم يبخل زوجها بالغالي والنفيس ليحقق لها حُلُم حياتها، ولكن أمر الله لم يأت بعد.
واليوم كانت في سبوع ابنة خالتها، وجيء بالمولودة، فوضعوها في غربال على منضدة عالية وبجوارها قُلّة، ثم حملوا الغربال بالطفلة ووضعوه على الأرض، ودقت جدتها لوالدها الهون، وأجريت مراسم وطقوس السبوع.
كانت سعيدة كل السعادة بوجودها في هذا السبوع ومراسمه وطقوسه، تبتسم لهذه، وتضحك مع تلك، وفجأة سقط كوب “المغاث” من يدها، إذ خانتها قواها، ولم تتمالك نفسها أو أعصابها حين قالت لها إحدى السيدات:
ـ اتشطري يا موكوسة وهاتيلك حتة عيل، انتي بقالك ست سنين يا خايبة ولسة محبلتيش، وبنت خالتك مكملتش السنة وخلفت بنوتة “زي القمر”.
أمسكت حقيبة يدها واتجهت إلى باب الشقة، فانصرفت دون استئذان، وحتى دون أن تقدم “النقوط”، ودموع قلبها تجري على الأرض قبل دموع عينيها، إذ عُيِّرَتْ بعدم الإنجاب، وهي التي ذاقت الحنظل ومشت على الأشواك وتجرعت العلقم من أجل أن تحمل وتلد.
انصرفت وفي قلبها غصة، وعلى وجهها الحزن والأسى، وانطلقت هائمة لا تعرف من أين تبدأ طريق الرجوع إلى بيتها، فأخذت تعرج من طرق شتى، وتمر بشوارع ومناطق لم تمش منها أو تسمع عنها من قبل، حتى وصلت بعد أكثر من ساعتين مشيا على الأقدام، ورغم ذلك كله لم تشعر بطول الطريق، ولا بالوقت الذي أمضته هائمة وحدها.
لقد أصابتها تلك المعايرة بحالة من الانهيار العصبي الشديد، فعزفت عن الخروج من البيت ومقابلة الناس أو التواصل معهم ولو بالهاتف، ولزمت سريرها، وأهملت نفسها وبيتها، حتى العلاج الذي كانت تواظب عليه من سنين من أجل الحمل والإنجاب امتنعت عن تناوله، بل وألقته في سلة القمامة غير مأسوف عليه، حتى كادت تهلك من وقع المعايرة الفظيعة، ومن قلبها الذي يصرخ من ألم الإهانة المريعة، ومن روحها التي تبكي من هول الاستخفافات الشنيعة.
وكاد عام ينصرم ولا زالت تعاني من هذا الانهيار العصبي الشديد، وتنبهت فجأة أن الدورة الشهرية متأخرة عن موعدها بأسبوع أو أكثر، وأنها تريد الغثيان والتقيؤ، وأنها تشعر بإرهاق شديد من أقل مجهود تبذله، وأحضر الزوج الطبيب إليها، فلما انتهى من عمله، نظر إليه، وقال له:
ـ مبارك .. حرمكم حامل.
🍂