فى أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أقدمت إسرائيل على تزويد إيران بالسلاح، وسئل شارون: لماذا تساعدون إيران، وقد أعلنت عداوتها لكم منذ سقوط الشاه؟
قال شارون فى بساطة: استراتيجيًا، فإنى سأحارب إيران فى المستقبل، وتكتيكيًا فإنه يهمني أن تحارب العراق بدلًا مني!
نحن قفزنا على التكتيك، وعلى الاستراتيجية، وعلى كل شيء، وتناسينا الهيمنة الأمريكية، والخطر الإسرائيلى، وأسرفنا فى التنبه للخطر الفارسي الشيعي الذى تمثله إيران!
لو نظرنا إلى العلاقة بين الوطن العربي وإيران بمنطق التكتيك والاستراتيجية، فإن إيران – الآن – دولة مناصرة للحق العربي في فلسطين، وهى تساعد المقاومة الفلسطينية، واللبنانية أيضًا، بالمال والسلاح، وهي الدولة الوحيدة بين دول العالمين العربي والإسلامي التي أكد رئيسها حتمية زوال الكيان الصهيوني.
ثمة اختلافات مذهبية مضى عليها مئات السنين، وخلافات على الجزر الإماراتية، من الأصوب أن نرفعها إلى محكمة العدل الدولية، عدا ذلك فإن القوى العربية والإيرانية يجب أن تتجه إلى عدو يجد الحماية والتبرير لأفعاله المدمرة، من أكبر قوة عسكرية فى عالمنا المعاصر.
لجحا تعبير طريف أجاب به عن تحذير يخيفه من خطر ما، قال جحا: مادام بعيدًا عن بيتى فلا بأس!
لكننا نرفض التفكير حتى بالمنطق الجحوي، فالخطر في داخل البيت، ومن حوله، وبديهي أن نقبل مساعدة من قد نختلف معه في أمور تتصل بالخلاف السني الشيعي، وكلاهما مذهب إسلامي.
ولعلي في غير حاجة إلى التذكير بالعبارة التي قالها تشرشل تبريرًا لمصالحته مع ستالين، كي يواجها التوسع النازي : أنا على استعداد للتحالف مع الشيطان من أجل بلدي!
إيران ليست شيطانًا، ولا نحن – بالطبع – ملائكة، لكن الهدف واحد، بحيث ينبغي أن تتجه قوانا المشتركة لمواجهة الخطر!
على سبيل المثال، فإننا لا نستطيع أن نتابع بالمنظور نفسه تطورات الأحداث الأخيرة، وأهمها اغتيال قيادات للمقومة، استهدافًا لنسف مفاوضات إنهاء حرب الإفناء التي يعانيها الشعب العربي الفلسطيني.
آخر تلك التطورات تحركات الدبلوماسية الأمريكية المتسارعة لإقناع طهران بالعدول عن تنفيذ وعدها بالانتقام من جريمة اغتيال الزعيم الفلسطيني إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية التي استضافته في حفل تولية الرئيس الإيراني الجديد.
عندما يصدر نتنياهو قراراته باغتيال قيادات المقاومة، والمزيد من عمليات التدمير والإفناء، فإن الأمر يتجاوز عبارة” عيًل وغلط” إلى ضرورة الإدانة المعلنة، وتزكية تقديم رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية، وليس تسخيف الفكرة، وهو رد الفعل الذي استقبلت به واشنطن قرار المحكمة الدولية.
في 1887 ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق بنيامين فرانكلين خطابًا تاريخيًا، حذر فيه الشعب الأمريكي من الخطر الذي يهدد بلاده:” هذا الخطر يتمثل في اليهود إن لم يجر استئصالهم من الولايات المتحدة، فإنهم وبموجب الدستور، وخلال مائة عام في الأقل، سيتدفقون إلى هذه الدولة بأعداد ستمكنهم من تدميرنا، عن طريق تغيير تركيبة حكومتنا، وحريتنا الشخصية، من أجلها. إذا لم نستأصلهم، فإن أطفالنا – خلال مائتي عام – سيعملون في الحقول لإطعامهم، بينما هم سيكونون في مكاتبهم يفركون أيديهم في نشوة. إني أحذركم أيها السادة. إن أطفالكم سوف يلعنونكم في قبوركم. إن قيمهم بعيدة عن قيمنا نحن الأمريكيين، على الرغم من أنهم يعيشون بيننا منذ عدة أجيال. إن النمر لا يستطيع أن يغير جلده”.
إذا كانت الصورة قد تبدلت تمامًا، منذ طرحت الولايات المتحدة العبء عن نفسها، وصدرته إلى الوطن العربي، حسمًا غريبًا في قلبه ينشر التجزئة والتفتت والحروب والمؤامرات واستلاب القدرات وزرع الخونة والعملاء، فإن واشنطن أوكلت لنفسها الدفاع عن الجسم الغريب، منذ أعلن ترومان اعتراف واشنطن بدولة إسرائيل، منذ قيامها حتى الآن.
لعلك تصورت – في الحرب الحالية ضد الفلسطينيين في ما تبقى من بلدهم – أن قيادة العمليات العسكرية في واشنطن وليست في تل أبيب، من يلقي الأوامر هو الرئيس بايدن، ويتولى التنفيذ مجلس الحرب الإسرائيلي.
لقد اعتمدت إسرائيل سياسة الوعاء المضغوط، فما أكثر الحروب التى دارت فى ظل وجودها، وعمليات النفى والتشريد والمصادرة والإفناء بين أبناء الشعب الفلسطينى، والعمليات الإرهابية التى شملت مدن العالم، والخلافات المتوالية فى منظمات الأمم المتحدة، أبرزها الفيتو الأمريكى فى مواجهة إدانات مجلس الأمن للإرهاب الصهيونى، والقرارات التى اتخذتها الجمعية العامة، والمنظمات التابعة لها، دفاعًا عن حق الشعب الفلسطينى فى حريته وتقرير مصيره.
تعددت المذابح الفلسطينية – ومازالت – ليس لمجرد تحقيق حلم الدولة، وتوسيعها، وإنما للقضاء على الشخصية الفلسطينية، على الهوية الفلسطينية. وكما يقول الكندي مايكل نيومان، فإن كل إسرائيلي يهودي، حتى الأطفال، هم أدوات توجه ضد الشعب الفلسطينى.
إن عمليات القتل العشوائى والمذابح المتوالية وغير المبررة التى تنفذها القوات الإسرائيلية، لا تستهدف مجرد التأديب والتخويف والإرهاب – وكلها أهداف مرفوضة! – لكنها تستهدف – فى الدرجة الأولى – تقليص الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وهو ما يتمثل في العديد من القوانين والإجراءات التي اخترعها الكيان الصهيوني، مثل تحويل عرب القدس من مواطنين إلى مقيمين، وتكبيلهم بقيود تصل إلى حد منعهم من العودة إلى بيوتهم، وإزالة البيارات والمناطق السكنية بدعوى منع الإرهاب الفلسطيني، وتهجير الفلسطينيين من بلادهم.
لغة عصابات مطلقة. دعك من الأوهام التي تلغيها ممارسات الكيان العنصري في امتداد الوطن العربي.
الإرهاب دائمًا فلسطيني، أو عربي، وهو – في كل الأحوال – لا يعدو ردود أفعال على إرهاب الدولة الذي تمثله إسرائيل، وإرهاب الأفراد الذي تمثله جماعات المستوطنين. إذا أقدمت الحكومة الإسرائيلية على عمليات تدمير، أو تصفية جسدية، معظم ضحاياها- في الأغلب – من المواطنين العزل، فإن الولايات المتحدة – تعبيرًا عن توازن موقفها المبدئي – تدعو إلى ضبط النفس. والمعنى أن يمسك الفلسطينيون أنفسهم عن مجرد التفكير في ردود أفعال من أي نوع . أما إذا حدث رد الفعل في فلسطين بتأثير توالي عمليات التدمير والاغتيال الإسرائيلية، فإن الإدانة الأمريكية تعلو وتستنكر وتدين.
الغريب أن الساسة الأمريكان يدركون أن التأييد المطلق إسرائيل يعود على بلادهم بالسلب، فلا فائدة استراتيجية من الوقوف إلى جانب الكيان العبري، بل إن عداء العرب والمسلمين والرأي العام العالمي المستير، هو الثمرة التي تجنيها واشنطن من تلك العلاقة.
لا أطالب الرئيس الأمريكى الحالي ولا المنتخب أن يعيد النظر في سياسات بلاده، فالحلقات متصلة. بل أطالبه أن يراجع السجل الحافل بالجرائم، ويحاول بالتالى أن يتعرف إلى الصورة الحقيقية لبلاده فى أعين العالم، فى أعين الشعوب على وجه التحديد، ليبدأ وضع منهجه السياسى من خلال نظرة شاملة واستيعابية لأحوال العالم الذى قد تكون بلاده فيه قوة عظمى، لكنها واحدة من دوله!