دمعة على الموت الأول رواية أولى لعفاف طبّالة، تساءلت – وأنا أطوي غلافها -: لماذ تأخرت الكاتبة في نشر هذه الرواية؟
الرواية عن هند التي فاجأتها رسالة أمها جميلة، جيجي، تطلب قدومها. كانت الأم في حياتها – حتى تلك اللحظة – ماضيًا، لا سبيل إلى استعادته. أجادت العمة نفيسة نسج الصورة الشوهاء للأم في عيني ابنة أخيها، أزاحت حتى الصورة المقابلة، المنصفة، للعمة الأخرى آمنة، فهي” الوحيدة التي تذكر جيجي بالخير حينما تأتي سيرتها”. عمق من التأثير السلبي لرواية نفيسة تصديق الزوج عبد الكريم ياقوت لها، حتى أنه طلقها، وطردها من حياته، وباعد بينها وبين ابنته التي عاشت وهي لاتعرف إلّا الرواية الوحيدة القاسية. ثم تبينت هند حقيقة أمها، وزيف الادعاء الذي ألصقته بها العمة نفيسة. الباعث – في رواية الساردة – لما دخلت جميلة المطبخ لتشرب كوبًا من الماء، فرأت نفيسة والعم عرفة يتعانقان. اختارت جميلة الصمت، حتى لا تصدم زوجها، لكن نفيسة حكت لأخيها ما رأتها جميلة تفعله، على أنه فعل جميلة!. وصدق الأخ – لصمت الزوجة – فقذف جميلة بيمين الطلاق، وطردها من حياته.
الرواية مزيج من تفاعل الفنون: السرد الحكائي، والبوليفونية ( تعدد الأصوات ) ورواية الأجيال، أو الرواية النهر، والسيرة الذاتية، والسيرة الغيرية، وثمة التقطيع، والفلاش باك، والمزج، والقص واللصق.
الأصوات ثلاثة: صوت السارد/ االساردة، صوت الابنة هند، صوت الأم جميلة، أو جيجي، من خلال مذكراتها.
حيرتني بداية الرواية، الكاتبة، الساردة، تروي – في فصل – عن حياة الآخرين، ثم تترك لك – في الفصل التالي – تبيّن شخصية الراوي. تعود إلى البداية لتصل أول الخيط بتوالي الأحداث. عرضت الكاتبة للحظات البداية الروائية، تلاحقت أسماء هند وجميلة والجدة وداد والشقيقة عفاف وصالح ونجية وسيد البواب وإبراهيم البواب وتامر وعلي الخربوطلي ( أحب جميلة وتزوجها عرفيًا، ثم مزق ورقة الزواج، واختفي من حياتها ) وسميرة وعادل بركة وفاطمة ويسرية وعرفة ومريم وحازم والتمرجي عازر وأسماء أخرى كثيرة، قد ترهق القارئ – أرهقتني شخصيًا – تطالعك شخصية ما في لحظة غير متوقعة، تتصور أنها شخصية في الهامش ستعبرها الأحداث، لكنك تكتشف أن ظهورها المفاجئ له جذوره في ما سبق من الرواية، وأنها ممتدة في الأغصان والأوراق. ربما غاب الاسم في الصفة بما يدعوك إلى مراجعة ما كنت قرأته، لتصل ما حدث بالآني. الطرق الفرعية، الجانبية، تتعدد، أو تتداخل، تشحب معها ملامح الشارع الرئيس، أو تغيب. المعيد حافظ – مثلًا – ظل حبه لهند خافيًا منذ التقاها – للمرة الأولى – في مكتبة الكلية. وثمة عادل بركة، المحامي الذي حاول – مدفوعًا بحبه لجميلة – أن يفعل ما يعيد الابنة إلى أمها، ثم سكت عن رضائها بالمقسوم، وعدم محاولة الاتصال والبحث عن الابنة التي أجبرها الأب الضابط – بحكم موقعه القريب من السلطة – على توقيع تنازل عن حضانة ابنتها. وتشكل علاقة العمة نفيسة وعرفة زوج العمة آمنة خيطًا حكائيًا، سواء في محاولته التحرش بالفتاة هند، أو بعلاقته الجنسية مع العمة نفيسة، ونتعرف في بيت مدام روز التي استضافت الأم إلى علاقات متقاطعة، ومتشابكة، بين صاحبة الشقة وزوجها ميلاد والابن إدوارد في تدينه الظاهري، بينما يتملكه هوس جنسي، والابنة ميري التي تبين تصرفاتهاعن شخصية شاذة، ثم فرارها من البيت لتتزوج شابًا مسلمًا. وحب تامر وإيمان حكاية حب، انتهت بسفر تامر إلى الخارج لاستكمال دراسته العليا، وحياة عادل المحامي الأسرية قصة تنبض بالتفصيلات اللافتة. البواب صالح وزوجته نجية قصة أخرى عن الزوجة التي تعاني ابتزاز زوجها، فهو يأخذ كل ما تحصل عليه من هبات سكان العمارة، ولا يتيح لها استقلالًا اقتصاديًا من أي نوع. الزوجة هنا ضحية تسلط الزوج وقهره، بعكس زوجة البواب الأخرى فتحية في نداهة يوسف إدريس التي ساقتها غواية المدينة.
الأم – في الصفحات الأولى – يذكرنا بالأم في روايتي ” سلوى في مهب الريح” لمحمود تيمور، و” الطريق المسدود” لإحسان عبد القدوس، الأم التي يبعد عنها المثل بأنها” تعشش”، وإنما مثلت دافعًا لابنتها كي تسير في الطريق الخاطئة.
الأم – عند كل من تيمور وعبد القدوس – حاولت أن تقنع ابنتها بما تراه صوابًا، أما الأم عند طبًالة فإنها ضحية سوء الظن والغيرة والحقد وغيرها من المشاعر السلبية التي كانت تضمرها – وتعلنها – العمة نفيسة، فهي لا تترك منفذًا تعبر من خلاله إدانتها لزوجة أخيها. حتى هند – ابنة الأخ – باحت لها بتلك الآراء.
غاب الأب في روايتي تيمور وعبد القدوس، لكنه لم يغب عن رواية طبّالة، ظل تكوينًا مهمًا حتى في توقع الأحداث، كقول العمة نفيسة – عندما اعتزمت هند زيارة أمها: لو عرف أبوك؟!، فهو إذن شخصية لها تأتُيرها في تطورات الأحداث، إلى حد التلويح بقبضته عندما أرادت هند أن تعود أمها المريضة.
تعرفت هند إلى ماضي أمها، إلى ملابسات علاقتها بأبيها، وبالعمة نفيسة، تعرفت إلى ذلك كله مما روي لها من الأب والعمة. ثبت في وعيها أن أمها حرمتها – لسنوات – من حبها. فأزمعت إرجاء حزنها ودموعها على مرض الأم، حتى تتأكد أنها تستحق ذلك بالفعل.
استمعت هند إلى رواية ثانية، مقابلة، من العمة آمنة. تقول هند لها: ادعي لها – هند – يا عمتي. تقول العمة: ولم لا أحبها؟ أنا لم أر منها إلّا كل خير منذ معرفتنا بها، عندما أرسل أخي عبد الكريم حطابًا لأبي يخبره فيه أنه عقد قرانه على فتاة من منقباد مقر كتيبته، وأنه اضطر لعقد القران في غيبتنا، لأن ظروف ـأبي الصحية التي تدهورت بعد وفاة أمي لا تسمح له بالسفر إلى هذه المنطقة البعيدة. ثم فاجأتها مذكرات الأم ورسائلها المتبادلة وأوراقها الشخصية وصورها بما لم تكن تعرفه ” قلبت موازين الأمور، وجعلتني أراجع كل ما اعتبرته من قبل حقائق مسلمًا بها”.
ارتدت هند ثوب أمها، وبدت بعينيها الخضراوين وشعرها الكستنائي الطويل، كأنها تحقق المثل – كما قال السارد، الساردة -” الّلي خلف ما ماتش “. استردت جميلة – قبل أن ترحل عن الدنيا – ما استلبته الأهواء القاسية، تمثلت جميلة الثانية في ابنتها هند.
ناوشني السؤال: لماذا أغفلت الكاتبة – في البداية – اسم العمة نفيسة؟
اكتفت بالعجوز وصفًا لها، تصح الصفة لو أنها صدرت عن الراوي المشارك، الصوت في مجموعة أصوات، وليس عن الراوية, صفة العجوز هنا لها دلالتها، وهو ما قد لا تتحمله الشخصية إن جاء الوصف من الساردة، الكاتبة.
الإيقاع في نهايات الرواية لاهث – أعني التعبير – بتأثير الإحساس أـن لحظة الحقيقة تغيب في ثنايا موقف، أو عبارة. أفادت الكاتبة من عملها السينمائي، تحول بطء الإيقاع السردي إلى توقعات متلاحقة. ولعل البساطة التي يتسم بها السرد تصرف القارئ عن الدلالات التي تتضمنها، لكن البساطة – وربما الوضوح – بساطة خادعة. واللغة الشعرية ليست مجرد استعمال لغوي من بين استعمالات أخرى، إنما هى اللغة فى بساطتها. واللغة فى هذه الرواية تميل إلى البساطة والعفوية، وتخلو من المفردات الزائدة. كل جملة وكلمة وحرف لها دورها الذي تفيد منه الرواية، يخدم سياقها، ولا يجنى عليها الترهل. إنها لغة فنية وعملية في آن.
هذه الرواية ثمرة أولى لعفاف طبالة، سبقتها – كما قرأت – كتبًا لليافعين والأطفال، لكنها تذكرنا بثمار البداية للعديد من كبار المبدعين: عودة الروح للحكيم، قنديل أم هاشم لحقي، نفوس مضطربة لأحمد زكي مخلوف، مليم الأكبر لعادل كامل، الناس في بلادي لعبد الصبور، مدينة بلا قلب لحجازي، الباب المفتوح للطيفة الزيات، أرخص ليالي لإدريس، قصة شاب عاش منذ ألف عام للغيطاني، وغيرها من الإبداعات التي مثلت إضافة جيدة إلى المكتبة العربية.
إذا تجاوزنا المأساة الشخصية لجميلة – منذ طفولتها حتى غادرت الحياة – فلعلنا نلامس العديد من الدلالات السياسية والاجتماعية، وهو ما أرجو أن أعرض له في كلمات أخرى.