أدركت – بعد أن أتممت قراءة هذه المجموعة القصصية لمي مختار – لماذا اختارت مقهي الفيشاوي موضعًا لندوتها الشهرية. أنت تعيش لحظات مصرية ممتدة، أملاها الحنين والذكريات والفطرة والبساطة وعشق التراث والموروث والمزارات الدينية والحب لكل من حولها، ولكل ما حولها، بل إن مقهى الفيشاوي شخصية رئيسة في واحدة من قصص المجموعة، تكوين يتسع في تكوينات متداخلة تهب مشهدًا للأحياء الشعبية، من خلال ملامحه المميزة. عالم أحبه شخصيًا، أحب العيش فيه: أفق الزراعات وصيادي السنارة والجرافة والأسواق والمقاهي الشعبية ورفع الأذان والموالد وحلقات الذكر والإنشاد والجلوات والأغنيات والأمثال والعبارات الحكمية ومفردات الموروث الشعبي.
أنت تتعرف – في العديد من قصص المجموعة إلى جوانب من مشكلاتنا الاجتماعية والأسرية، تأتى النهاية هامسة، تومئ، ببساطة اللحظة، وتعقيداتها، لكنها تعبر عن وجدان محب لما يلتقيه من بشر ومظاهر حياة.
ثمة قصص في المجموعة تصور العيش في حي السيدة زينب: الناس والجامع والميدان والشوارع المحيطة. مشهد بانورامي للحي الشعبي الذي يشابه في الكثير من قسماته صورة الحياة في الأحياء الشعبية الأخرى، وصورة الحياة في مدن الأقاليم، الناس والمعتقدات والعادات والتقاليد والعلاقات الحميمة والتكافل، الأذان والصلوات والأذكار والتواشيح والأهازيج والابتهالات والإنشاد الدينى، وثمة الساعون إلى لقمة العيش والمسحوقون والمهمشون، يحيطهم الاطمئنان إلى رعاية آل البيت وأولياء الله، وإن وجدوا فى اليقين الدينى ما يعينهم على مغالبة الظروف القاسية. ونتذكر – بالطبع – إبداعات استلهمت الحياة في الحي المضمخ بالروحية: عودة الروح للحكيم، قنديل أم هاشم لحقي، خط العتبة لفتحي رضوان، بين أبو الريش وجنينة ناميش للسباعي.
الجدة في قصة ” لحاف قطن” تحرص على العناية باللحاف القطن، تأخذه من الدولاب، وتحيك تلبيسته، وتحتضنه بصدرها وعينيها: اللحاف سترة ومسيري أتغطى بيه. وعرفت الساردة معنى الكلمات بعد أن شاركت في وداع الجدة إلى المقابر. تغطى الجثمان باللحاف، فتحققت السترة. وقالت حارسة المدفن وهي تقدم يديها لتأخذ اللحاف: وصّتني أيامها الأخيرة، اللحاف ده عشانك. وتسأل الساردة نفسها وهي تتأمل بائعة الخوص في مدخل المقابر: لماذا لم تجد لنفسها مكانًا بالمدرسة، لتحمي نفسها من أشواك الورد؟ وهل تنعم بنوم هادئ بين الأموات داخل المقابر؟ وهل تعلم أن هناك حياة أخرى، بعيدًا عن جدران المقابر يعيشها الأحياء مثلها؟. وتأتيها الإحابة في قول الفتاة لما تسألها الساردة: هل تريد أن تكون طبيبة أو مهندسة؟. تجيب بلا تردد: أنا نفسي آجي معاكي!. وفي قصة” الرؤية” يبين الحس الإنساني عن بعد جديد في زيارات الأسر لأبنائها من نزلاء السجون. عانيت – شخصيًا – تلك اللحظات. سرت في الستينيات – مسافة هائلة – من سجن طرة إلى سجن المزرعة لزيارة قريب. أدركت أن العقاب للأسر وليس للمعتقلين. في قصة” زمن العار” – العنوان غير موفق – عن لحظة تبين الصبية ظهور علامات النضج الجسدي، الدورة الشهرية. وفي قصة” المقص” يطالعنا القهر في أقسى صوره: الزوجة التي تعاني آلام السرطان، والزوج اذي يصر على حقه في المضاجعة. تقابلها قصة” وصفوا لي الصبر” عن الزوج الذي يحاول تطويع مهنته كمغن في التخفيف من معاناة زوجته آلام السرطان، ورغم سذاجة الحدث في قصة “رفعت الجلسة”، فإنها تومئ إلى قسوة الجزاء عندما يهب المرء أغلى ما لديه لمن لا يستحق. والغوص على أحلام الفقراء تبين عن جوانب من حياة المصريين في الغربة. غرفة كبار السن لقطة زوم لمجموعة من المرضى ما بين الثلاثين والأربعين، وبعضهم على مشارف السن. العنوان تنقصه الدقة لأن المرض هو الذي يجمع النزلاء وليس السن، يضمدون جراح بعضهم البعض لتستمر الحياة، تصورًا أن هناك من يشتاقون للقائهم في بقعة ما من الأرض. الصورة ثابتة، لكنها تنبض بالدلالات الإنسانية، ذلك ما يسهل تبينه في نصوص، تستدعي المقولة إن الحدوتة ضرورة للسرد الفني، حتى القصة الومضة لابد أن تؤطرها حدوتة،
التعريف الأسهل للقصة القصيرة هو أنها قصيرة، لكن القصة القصيرة – فى أهم تعريفاتها ـ هى التى تتركز فيها حياة بأكملها، وإن أخذت فى زمن السرد بضع دقائق. ليس معنى القصة القصيرة إنها “قصيرة الزمن “، أى إنها تمتد فى مساحة محدودة ومحددة، فقد تستغرق لحظة، أو بضعة أعوام، أو حياة إلى نهايتها.
هذا ما تبين عنه قصص ميّ مختار. عدا ما قد تنسبه – ببساطة – إلى أجناس أخرى، “بورتريه”، أو لوحة قلمية، أو خاطرة. تصدر عن وجدان الكاتبة من خلال تعاطفها مع المهمشين والغلابة والمنكسرين.
مع ذلك، فإن معظم قصص المجموعة تعي خصائص القصة القصيرة، من حيث اللحظة التي تعني بالتقاط التفاصيل الدقيقة، وبالقصر والتكثيف والدلالة الموحية، وتهمل زخرفة الكلمات والأسلوب، وتتخلص من الجهارة والترهلات والاستطرادات. القصة أقرب إلى الومضة التي تومئ، وتترك في وجدان المتلقى – وذهنه – تأثيرًا باقيًا، وهذه هي القيمة الحقيقية للفن: أن يظل في وجدان المتلقي، بل إنه قد يستدعيه في قراءة بعض الإبداعات.
أستأذنك في أن أنقل هذه الصورة التي تبين عن الكثير مما أريد توضيحه: في الذاكرة حكايات وصور وتفاصيل أبيض وأسود، تنعشها من آن لآـخر: راديو خشبي بلجيكي الصنع، مطحنة البن النحاس، مسلسل الحرافيش عند الخامسة عصرًا، بائع العرقسوس وصاجاته الرنانة، تابلوه الدندرمة الراقص على موجات الإذاعة، صوت الجارة وهي تغازل بائع الفول والبليلة، صراخ الأمهات لإيقاظ أطفالهن في موعد المدرسة رغم برودة الجو، حلاوة صوت الشيخ محمد رفعت في رمضان، صوت غليان براد الشاي الصاج فوق الموقد، إلخ. ملامح حياة مصرية عشتها شخصيًا، وعاشها المصربون من أبناء الطبقة الوسطي وما يعلوها، وإن فرض السؤال نفسه في حديث الساردة عن شارع المعز بأحد أحياء القاهرة المعزية. الجمالية هو الحي الذي تتنفس غالبية شخصيات المجموعة حياتها في بيوته وميادينه وشوارع وحواريه وأزقته.
يذكرني تلاحق الصور بمجموعة يوسف إدريس الأولى” أرخص ليالي”- هي مجموعة مفصلية في تاريخ القصة القصيرة العربية – ثمة عفوية في شخصيات إدريس، وتعبير عن الوجدان المصري بعامة دون افتعال ولا مبالغة، ناس بسطاء نلتقيهم في الأسواق والزوايا ومزارات الأولياء والمقاهي والحضرات وقعدات المصاطب. لا تحددهم في شخصية أو شخصيات، إنما تحسبهم على حياتك المعاشة بكل ما تواجهه من ملذات صغيرة وانكسارات، لا تؤطر، ولا تثبت ما يرفض القيد، تحرص على عفوية اللحظات، وبساطتها، وتعقيداتها، واختلاف الرؤى والتصورات. بل إنك تحسب السارد واحدًا منهم جعل قلمه صدى لأحلامهم وما يعانون.
قلبي مليان بحكايات – لو أن الباء حُذفت – تنظر إلى الشخصيات بعيني التعاطف والإشفاق. أتصور أفق رنوها القريب في التماهي المحمل بلحظات مصرية، مضفورة في فنية تعي خصائص الفن الذي اختارته وسيلة تعبير.