»»
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لأدباء ومواهب أرض الكنانة..وبإطلالة مبدعة أهدت الكاتبة عزة نصرالدين قصتها القصيرة “انقلب السحر”، لبوابة “الجمهورية والمساء”.
عزة تخطو بثبات في دنيا القصة والرواية نحو التميز والإبداع ،وبحروف منمقة ولغة رشيقة تنسج خيوط قصتها لتعلن عن موهبتها في امتلاك ادوات السرد والبناء الدرامي.. ونحن علي موعد قريب لميلاد “أديبة” واعدة ..
وننشر قصتها عبر هذه السطور..
🍂
“انقلب السحر” !!
“من يا ترى سيأتينا الآن؟!” ..
قالتها “نجاة” لزوجها حينما دق جرس الباب بينما كان ينظر لعقارب ساعته، إنها الثانية عشرة ليلًا، فأجابها في توتر: سنعلم الآن من الطارق.
فتح الباب وهي من ورائه، فوجئا بـ”نرمين” التي دلفت سريعا مهرولة إلى زياد وهي تهتف في ضراعة:
_ زياد إنهم خلفي يلاحقونني، أنقذني منهم أرجوك، لوهلة لم يستوعب زياد ما تقول ،لكن ملامح نرمين الفزعة، ورعشتها بين يديه، ونظرها للباب الذي دلفت منه مع كل كلمة تخرج منها بذعر دفعه لسؤالها:
_من هؤلاء ؟!
_لا أدري ..
_لما يلاحقونك ؟!
_لا أدري، لا أدري.. أنا خائفة
_أين هؤلاء ؟!
_بالخارج، هم بالخارج يلاحقونني
حاول زياد إفلات يديه من قبضة يديها، التي ما إن دلفت حتى قبضت عليهما كالطوق الحديدي، أمام ناظري نجاة، التي لم تنبس ببنت شفه، فقط تتأمل بصمت ملامح نرمين الفزعة، لا أدري لما لا أصدقك أيتها الماكرة، هكذا همست نجاة داخلها، وهي لا تزال تصوب نظرها على نرمين التي تقبض على يدي زوجها، حتى أنها لا تترك له مجال، ليلقي نظرة بالخارج ليعلم من هؤلاء.
_ نرمين حبيبتي اهدئي، تعالي اجلسي هنا، دعي زياد ينظر من بالخارج ،ومن يكون هؤلاء !
قالتها نجاة وهي تفلت يدي زوجها من براثن يديها، فامتعض وجه نرمين من فعلة نجاة تلك التي استطاعت بالأخير من نزع يدي زياد منها، كمن تخبرها أن زياد صار لي منذ زمن، ولا يحق لكي لمسه أو الاقتراب منه، كما كانت تفعل على الدوام من إفساد لمخططاتها البغيضة التي لا تفتأ تحيكها من أجل إفساد زواجهما.
أخيرا قد تمكن زياد من إلقاء نظرة بالخارج، فلم يجد أحداً، مشط المكان حول البيت ليجد أثراً، لكن محال كأنه يبحث عن سراب، عن أشباح، أو هكذا خيل له.
_ها قد جاء زياد.. قالتها نجاة ثم أردفت بسؤال:
_ هل وجدت أحد بالخارج ؟!
كمن تخبر نرمين أن كل ما قمتي به من تمثيل هو كذب.
_لا ، لا يوجد أحد، من كانوا يا نرمين؟! وماذا يريدون منكِ؟ وكم كان عددهم ؟! وما الذي حدث ؟!
_ زياد برفق عليها أما ترى حالتها ؟!
فأجابته نرمين بنبرة هذه المرة قد بدى عليها التوتر ؛وقد اقتضبت جوابها.
_ لا أدري.. أنا كنت أسير وفجأة.. قاطعتها نجاة بأن استأذنتهم مغادرة المكان فاستوقفها قائلا:
_ إلى أين؟! ابتسمت له ابتسامة حب وصدق وأجابته:
_ سأجلب لكما مشروباً ريثما تروي لك نرمين ما حدث، وأكملت همساً بداخلها:
_ فكل ما ستقول مختلق فكم من أكاذيب روت لنا للآن أما أرهقت !
دلفت المطبخ مخلفة كل شيء، مخلفة تلك البغيضة التي حفظت كل ألاعيبها عن ظهر قلب، ومخلفه زوجها وحبيبها ورفيق دربها، ذاك الرجل الذي وثقت فيه وبحبه لها لتعد لهما أي شيء، لتضيف به تلك البغيضة، أو هكذا تظاهرت أمامهما، فما الذي ستجهزه، كل شيء مجهز ومعد ومحفوظ بالبراد، فقط يلزمها سكبه فى ثواني، وتقديمه فى وقت لا يزيد عن دقيقتي.
على الصعيد الأخر جلس زياد بتململ فنجاة ليست بجانبه ،هو يفتقدها بشدة لقد أدركت نرمين هذا الشيء، من نظراته المصوبة تجاة الطريق الذي سلكته نجاة منذ قليل تاركاً نرمين تثرثر عن الحادثة بلا اكتراث منه بما ترويه
قاطعها زياد باقتضاب:
_ لم لا تقبلين من الخطاب الذين يقفون على بابك صباح مساء؟ وتعيشين فى كنف رجل، يكن سندا لك ،منها نطمئن عليك ومنها تكوني فى مأمن من أي مطاردات وملاحقات لكِ مرة أخرى!
قالت في انفعال وضجر باديان على صوتها:
_ زياد أن تعلم أني أتمنى رجلا واحدا لا سواه، تعلم كم يذوب قلبي حبا لهذا الشخص، كيف تطلب مني الزواج من أي شخص غيره ؟
صمت زياد فاستطردت هي حديثها بنبرة عشق ووله عن هذا الشخص ينافي انفعالها وضجرها منذ لحظات حتى وصلت لجملتها:
_ هذا الشخص اسمه.. قطع حديثها مرة ثانية ووقف منتصباً قائلاً في حدة:
_ لقد تأخرت نجاة كل هذا تعد العصير سأذهب لأستعجلها.. تركها مسرعاً ليقطع اعتراضها له بالذهاب وسط تأففها الذي لا يخفى عليه؛ فلقد أدركت نرمين أنه كان ذاهلاً عنها وعن جل حديثها عن الشخص الذي تحب أو هكذا ظنها هي.
كان زياد يعلم جيداً أنها تتحدث عنه، وأن اسم ذلك الرجل الذي تريده وتسعى إليه دائماً هو اسمه، ويدرك تماما مرادها، وهدفها جيداً .
كان قد وصل المطبخ وقد أدهشه ما رأى! كانت نجاة تضع سماعات الأذن، وكما توقع أنها تستمع لصوت قرائها المفضلين في تلاوة القرآن الكريم. تقدم نحوها بخفة وصمت وكأنه يمشي على الشوك، فجأة حاوط خصرها بحنان جارف ليضمها إليه، نطقت بالبسمله على الفور، فوضع يمناه على قلبها المرتجف معقبًا: كعادتك سريعاً ما تفزعين، رمقته بنصف عين مغلقة مائلة رأسها على صدره الذي أسندته إليه لتسمعه ردها المعتاد: الموقف تكرر كثيراً بينهما ،بل هو شبه يومي: “إني أعيش مع زيااااد” ضحك كليهما بخفة ومن ثم أدارها إليه ليبادرها بسؤاله بطريقة جديه: لماذا تأخرتِ فى سكب المشروب؟! أظنه جاهزاً ،لا يلزمكِ إلا سكبه فقط! هتفت في هدوء: صحيح فقط قلت لنفسي أدعكما بمفردكما بعضا من الوقت كي تنفس عن رفيقة صباك كربها وليس من اللائق أن أجلس لأستمع حديثكما ؛ربما هي لا تود أن تعلمني ما تود إخبارك به يا زوجي العزيز ..
_ نجاة ؟
_ ماذا!
_ ألا تغارين علي؟!
_ من قال هذا ؟!
_ فعلك !
_ وماذا فعلت ؟!
_ تتركيني مع إمرأة غيرك بمفردنا بحجة إعداد مشروب ،وتتلكأين فى إحضاره كل هذا الوقت وتقولين ماذا فعلت ؟! أجيبيني أما تغارين علي ؟!
نظرت له نجاة نظرة عتاب وهتفت هامسة: كيف لا تدرك الجواب. صمتت لحظة ثم أشارت له كالعادة بأن يرفعها على طاولة المطبخ لتجلس فوقهاثم قالت: لأكون بمحاذاتك ولأستطيع محادثتك بأريحية ولأنني.. قاطعها زياد وهو يمط شفتيه في مزاح: قصيرة.. لأنك قصيرة. وأقرن قوله بأن رفعها ليجلسها على الطاولة.
نظرت بعينيه ثم ضحكت في خفوت قائلة: طويل أنت، فلا ذنب لي فى كونك اخترت من هي أقصر منك !
نسي وجود نرمين بالخارج فأكمل مزاحه:أقصر مني فقط ؟ قالت مداعبة:حسناً أقصر بسنتيمترين.. ضحك: بل تقصدين بمترين.. رمقته بنظرة غضب مصطنعة ودلال لا يخفى عليه لتصوب له: تقصد أنك أطول مني بذراعين طويلين يملكهما زياد.. ضحكا بخفة ثم أعقبه صمت ونظرات زياد مسلطه عليها ينتظر جواب سؤاله ..
“ماذا !
_ نجاة أجيبي سؤالي
_ حسناً، اقترب مني لتشم هذه الرائحة الفاخرة الصنع.
أرجع رأسه للخلف قليلاً ليمعن النظر فى عينيها كي يعي ويفهم ما ترمي إليه فقد استغرب جوابها بشدة! قبل أن تعطيه وقت للتفكير أشارت إليه بإصبعها أن يقترب منها ليشتم رائحتها، انصاع لها طواعية فإشارتها الصامته تلك لها وقع تأثير السحر عليه. اقترب منها ليملأ رئتيه بنسيم عطرها فذاب فى عنقها ذا الملمس الحريري، أخذه عطرها في عالم أخر وتوقف الزمن به .
أفاقه سؤالها: ما رأيك برائحة هذا الحريق ؟! رفع رأسه عنها ليسألها: أي حريق ؟! قالت في دلال: هذا الحريق الذي نشب فى جسدي على إثر تلك النار التي أضرمت بقلبي، تلك النار التي أوشكت أن تنهي علي، ها هي انظر، انظر إنها تسري فى كل شريان ووريد، ألم تشعر بلهيبها بعد؟!
لقد أدرك ما كانت ترنو إليه ؛ فاقترب منها أكثر فأكثر ،حاوط خصرها بيديه وسألها كيف أطفئه ؟! قالت: أنت أدرى مني بذلك. نطق في هيام: صحيح ،أنا أدرى ؛فلا يفل الحديد إلا الحديد ثم أقبل عليها يضمها ؛كضمة القبر، كمن يود خلط عظامها مع عظامه، وصهر لحم جسده مع لحم جسدها، ومجانسة أوردتهما وشراينيهما معاً.
توقف الزمن بهما فى عالم الدنيا ورحلا لعالم أخر ؛لا ينغص عليهما فيه شيء حتى أنهما لم ينتبها لتلك العينان اللاتان تسلطت عليهما بكل خبث؛ فتلك النيران التي انطفأت جذوتها فى قلب نجاة أو هكذا خيل لهما ها هي قد أضرمت وتأججت فى قلب نرمين أكثر منها ضراوة وإتلافاً لكل شيء.
ظلا على وضعهما هكذا حتى أفاقهما هدير هذا الارتطام القوي لقد كان صوت غلق الباب ، حينها عرفت نجاة أن رسالتها قد وصلت لنرمين ؛بل أدركتها جيداً ،الذي يدفع زياد لترك رفيقة صباه المذعورة ،ما هو إلا حباً ملئ كل جوانبه لها ،ذاك الذي جعله يلحق بها ،أينما ذهبت ؛مخلفاً ورائه كل شيء،حتى لو كان هذا الشيء هو نرمين ذاتها ؛ضحكت نجاة ضحكة طغت على قوة الصوت الذي سمعاه مما دفع زياد لسؤالها: لماذا تضحكين ؟!
فأجابته نجاة هامسة بخفة تتناقض مع قوة ضحكتها للتو: لقد رحل إبليس، وانقلب السحر.. ثم عادت بضحكة أقوى من ذي قبل. ريثما أدرك زياد ما كانت ترمي إليه بل تيقن من تعمد زوجته لما فعلت، وتلك النتيجة التي أوصلت إليها نرمين، مما دفعها للمغادرة بهذه الطريقة، وغلق الباب خلفها بتلك القوة المزلزلة المماثلة فى دويها كانفجار عبوة ناسفة حتى أطلق هو أيضاً ضحكة مدوية ثم همس لها في حب صاف:
– يا لك من زوجة ذكية.