» بقلم ✍️ أحمد رفاعي آدم (روائي وأديب)
(1)
في ليلة قمراء من شتاء 1919 اجتمع الدكتور محمد حسين هيكل ورفاقُه من أعضاء الحزب الديموقراطي في مقهى محطة المنصورة. كانوا قد أنهوا جولتَهم في المدينة والقرى المجاورة بعدما قضوا خمسة أيام تنقَّلوا فيها بين البلاد المختلفة وزاروا العُمَد والأعيان وذوي المقدرة وجمعوا من التبرعات مبلغاً محترماً ليرسلَه الحزبُ باسم الشعب إلى الوفدِ لمعاونته على الدعاية للقضية المصرية في باريس وفي أوروبا، وفي كل مكانٍ يحتاجُ الأمرُ فيه إلى الدعاية.
كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف وبقيت نصف ساعة كاملة على موعد القطار المتجه إلى القاهرة. جلس الشبان الستة داخل المقهى، وهو حجرة كبيرة مستطيلة تفتح على الرصيف الرئيس، ليحتموا من برد الليل وليشربوا الشاي وهم يتجاذبون أطراف الحديث. قال الدكتور محمد:
– الحمد لله الذي وفَّقَننا لجمع كل هذا المال، بالتأكيد سينفع أعضاء الوفد المقيمين في باريس منذ أشهر.
قال منصور فهمي:
– صراحةً ما كنتُ أتوقع هذا الكرم الجم، لقد أسَرَنَا أعيانُ الريف وأهلُه بجودهم الذي لا مثيل له.
قال عبد الحكيم الرفاعي بحماس:
– إنها الوطنية يا سادة .. شعب مصر وطنيٌ بالفطرة .. وطنيٌ حتى النخاع، ولا يمكن أن يُزايد أحدٌ على ذلك!!
ثم استطرد:
– وخصوصًا في الريف، أرض الأصالة والمروءة.
رشف عبد الحميد بكري من كوبه الساخن بتلذذٍ ثم قال وهو يمسح على بطنه الكبير ضاحكاً:
– لا عَدِمْنا الريف ولا طعامه!
فضحكوا وترددت أصداء ضحكاتهم المجلجلة في أرجاء المحطة شبه الفارغة، قبل أن تخفت بالتدريج ويعودوا إلى جديتهم فقال محمد حسين هيكل وهو يقبض على كوبه الساخن ليتدفأ به:
– ماذا تظنون يكون رد فعل أعضاء الوفد على سفر عدلي باشا يكن إلى باريس؟
فلاح الانزعاج في الوجوه وبدا أنه تطرَّقَ بالحديث إلى منطقة محظورة أو على الأقل شائكة كانوا يتجاهلونا عن قصد، ولمَّا لم يكن من الجواب مفر، تطوع سليم دهشان المحامي الشاب بالإجابة فقال:
– رغم اختلاف وجهتَي نظر سعد باشا وعدلي باشا إلا أنني واثق من تلاقي الرؤى بما يصبُ في مصلحة الوطن. ورغم نشأة عدلي باشا يكن الثرية إلا أن وطنيته مخلصة، وسعد باشا نفسه لا ينكر ذلك.
فقال عبد الحميد بكري:
– أما أنا فلستُ أرى ذلك، ولا زلتُ عند رأيي؛ لم تكن هناك حاجة لسفر عدلي باشا!
فقال الدكتور هيكل مستنكرًا:
– ما هذا الذي تقوله يا عبد الحميد؟ بل هناك حاجة ماسة لتلك السفرة. ألم تعلم بما حاق بالوفد طوال تلك المدة؟ جمدت المفاوضات وباءت كل المساعي بالفشل، وحتى هذه اللحظة لم نتقدم خطوة واحدة نحو حلم الاستقلال وقد تنكرتْ الدول الأوروبية لقضيتنا، والآن لم تعد أمامنا من ورقة رابحة سوى التفاوض مع اللورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني ولجنته التي شكَّلَتْها حكومته، بعدما قاطعها الشعب في مصر، وهنا يأتي -يا صديقي- دور عدلي باشا فهو من سيقوم بدور الوساطة بين الوفد وبين لجنة ملنر لعلّ وعسى!
تدخل شهدي رمسيس قائلًا:
– عبد الحميد معه حق، فرق كبير بين سعد باشا وعدلي باشا، فلكلٍ منهما أفكاره ومبادؤه ونمطه السياسي، فإن كان سعد باشا زغلول رجلُ ثورةٍ ونضال، فعند عدلي باشا تجد اللين والمرونة اللذين يبلغان أحياناً حدَّ التساهل، فكيف بالله عليكم تُحمد عاقبة ذلك الجمع لا سيما في حضرة العدو البريطاني الذي لا يجيد في السياسة فناً أعظم من التشكيك وتأليب النفوس وبث الفرقة؟
ووجم الجميع فجاًةً كأنما استحوذت عليهم كلمات شهدي ووجدوا فيها الرأي الصريح الذي تحاشاه الجميع. ماذا لو كان ذلك حقيقةً فعلاً؟ ما العمل لو وقع شقاق في الرأي بين القوم في غربتهم ولم يتفقوا أمام العدو؟ وكيف يكون مردود ذلك على الشعب المصري الذي بات يتتبع أخبار الوفد ورجاله منذ سفرهم؟ لقد مرَّتْ أشهر وانشغال الناس بالقضية في ازدياد يحدوهم الأمل ويدفعهم حلم الاستقلال وجلاء الإنجليز. لقد نما الشعور بالوطنية وتغلغل في شرايين الأمة وبلغ ذروته في ثورة ١٩١٩، تلك الثورة التي لم تكن مصر فيها كما هي في أي وقتٍ آخر، كانت كتنينٍ جريحٍ قضى زمناً مسلسلاً قبل أن ينتفضَ وينهضَ من سباته العميق ليبسطَ جناحيه وينفثَ النار في وجه من يؤذيه، ذلك أنه قُدّرَ للشعبِ وقتها أن يثور ضد الاحتلال البريطاني وأن يخرج بكل طوائفه منادياً بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. مِن يومها ولا بديل للشعب عن إجلاء آخر جندي إنجليزي مهما تكلَّفَ الأمر. فإذا كانت تلك حالة كل فردٍ من أفراد الأمة فأي عاقبةٍ ستكون لو -لا قدَّر الله- لم يتفق سعد وعدلي أمام الأوربيين في عقر دارهم؟ وأي خيبةٍ وألمٍ وصدمةٍ ستضرب في جموع الشعب إذا بلغهم نبأ تلك الفرقة؟
وطال صمتهم وقد انعقدت الألسنة بوجوم اليأس فلم ينتزعهم منه إلا صوت القطار مقبلاً، ولدى رؤيته نهض الشباب وأخرج الدكتور محمد هيكل ورقة مالية وضعها على الطاولة ثم حمل حقيبته وقال مستهماً زملاءه:
– لا داعي للقلق .. تفاءلوا بالخير ..
وحمل كل واحدٍ حقيبته وصعدوا إلى القطار في صمتٍ وقد طوى كلٌ منهم مخاوفه داخل نفسه، وغادر القطار المحطة في اتجاه القاهرة التي لا تعلمُ وساكنوها ما يخبئه لهم القدر.
(2)
جلس سعد باشا زغلول في الشرفة المطلة على نهر “السين” يشاهد المراكب الباريسية الصغيرة تسبح فوق تياره المنساب، وتذكر النيل العظيم، تذكر الوطن الحبيب مصر، وهاجت مشاعره واعتراه شوقٌ كبير للقاهرة ولياليها الدافئة وناسها الذين يحبهم ويحبونه. مرَّت ثمانية أشهر منذ قدوم الوفد إلى فرنسا من أجل عرض القضية المصرية أمام مؤتمر الصلح دون تحقيق أي مكاسب تُذكر. وسرح مع ذكرياته -وما أدراك ما ذكريات رجلٍ يحملُ هم أمة- فتذكر ذلك اليوم الذي استقل فيه أعضاء الوفد الباخرة من جزيرة المنفى “مالطة” وسارت بهم إلى مرسيليا، وفي الساعة التي بلغوا فيها ذلك الميناء الفرنسي كان الدكتور وودر ولسن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومُعلن حق تقرير المصير لكل الشعوب على سواء، قد أذاع إعلاناً رسمياً باعتراف الولايات المتحدة بالحماية البريطانية على مصر.
زفر في ضيق وشبح تلك الذكرى المؤلمة يطوِّف به. لقد وَقَعَ ذلك الإعلان على أعضاء الوفد بمرسيليا وعلى الملايين من أهل مصر وقْعَ الصاعقة. فها هو ذا الرجل صاحب المبادئ الأربعة عشر، ومنها حق تقرير المصير، ينكر على الشعب المصري حقه في تقرير مصيره، ويعترف بالحماية البريطانية على مصر، ويذيع ذلك كله قبل أن يصل الوفد المفوض من الشعب المصري للدفاع عن قضيته إلى باريس، وقبل أن يسمع الرئيس “ولسن” منه كلمة!
وغلبه همه فقال مخاطباً النهر الذي شهد على ذلك النفاق:
– أليس هذا هو الغدرُ أبشع الغدر، وهو التنكر للمبادئ أبشع التنكر؟! ألا تباً للسياسة الأمريكية المنافقة وللسياسة البريطانية الماكرة الخادعة، كلتاهما وجهين لعملة واحدة، تربت بيدٍ على عواطف الشعب، وهي ممسكةٌ سكيناً تطعن الشعب بها في صميم قلبه، فتُدمي فؤاده، وتُذيبُ حشاشة نفسه!
وغاص الشيخُ المهموم في لُجةٍ من الذكريات الأليمة لم ينتشله منها إلا صوتُ لطفي باشا السيد يخبره بأن السيارة التي ستقله وأعضاء الوفد إلى الفندق الذي سيلتقون فيه بعدلي باشا يكن قد وصلت وأن جميع الأعضاء في انتظاره، فما كان من سعد باشا إلا أنه نهض متحاملاً على عكازه وتوجه من فوره إلى حيث ينتظرون. وانطلقت السيارة إلى الفندق المُزمع عقد الاجتماع فيه والنفوس تُضمِرُ في بواطنها ما لا يعلمه إلا الله.
(3)
وصل الدكتور محمد حسين هيكل إلى مقر الحزب متجهم الوجه وكل أمارات الغضب باديةٌ في ملامحه، كان يحمل جريدة مطويةٌ في يده، وما إن دلفَ إلى الحجرة التي ينتظره فيها رفاقه حتى ألقى الجريدة على المنضدة وهو يهتف:
– لقد وقع ما كنا نخشاه!
انزعج الزملاء من فعله وعلت وجوههم الدهشة وهم يرقبون الجريدة الملقاة، فنهضوا قلقين، وهتف به عبد الحكيم الرفاعي:
– ما الأمر يا هيكل؟! ماذا حدث؟!
أشار الدكتور هيكل إلى الجريدة وهو يقول بانفعال لم يستطع السيطرة عليه:
– وصلتْ برقية من باريس إلى أمين بك الرافعي، صاحبُ جريدة الأخبار، يقول مرسلها فيها: “إن وجود عدلي باشا بباريس على مقربةٍ من الوفد واتصاله بأعضاءه نكبة على القضية الوطنية”، ولقد نشرها في الجريدة التي أمامكم.
وانتقلت عدوى الغضب إليهم فصاح شهدي رمسيس:
– وكيف برجلٍ حصيفٍ مثله أن يرتكب ذلك الخطأ الشنيع وينشرها؟!
قال هيكل وهو ينهدُّ فوق المقعد وقد أنهكه الانفعال:
– تردد أمين الرافعي في نشر الخبر لما يترتب عليه من تبلبل في الأفكار ومن جناية على الوحدة القومية المقدسة. لكنه نشره بعد أن اتصل تلغرافياً بأصدقاءٍ له في باريس وثيقي الاتصال بالوفد، وعلى علم بالتيارات المختلفة فيه، فأكدوا الأمر!
وساد الصمتُ المكان، فلم يعدْ هناك مزيد كلامٍ يقال!!!!!
-تمت-
🍂
العِبرة
لا شك أن التاريخ يعيد نفسه، ومن يقرأ في كتب التاريخ ومذكرات المشاهير يعرف ذلك جيدًا!
في قصة “برقية من باريس” خبرُ حادثةٍ حقيقيةٍ وقعت في أعقاب ثورة ١٩١٩ مفادُها أن الفُرقةَ هي السببُ الأول لسقوط الأمم، وأنه لا خير ولا فلاح في من ينقسم على نفسه ويشتت شمله بيده ويفرق جمعه ويكسر وحدة صفه بحماقته! يؤكد الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته السياسية (ومنها استَخْلَصْتُ هذه القصة) أن سعد باشا عاد من باريس بعدما انتشر خبر تلك البرقية وقاد هجمة ثائرة ضد عدلي باشا يكن، وحشد كل فريقٍ رجاله ومؤيديه وهاجت النفوس وماجت المشاعر وتملك الغضب من نواصي الكثيرين حتى كاد الشقاق يقع في الأمة لولا ستر المولى وحكمة العقلاء حينها. كثيرون لا يعرفون عن ثورة ١٩١٩ إلا أنها كانت خير مثال على وحدة الصف المصري لكنهم يجهلون خبر تلك الفُرقة التي كادت تقع بين حزبين وتتسبب في انقسام الأمة المصرية ولربما هلاك سطوة وطنيتها أمام المستعمر البريطاني وقتها، لولا أن الله سلَّمْ.
كان لنشر هذه البرقية -كما ذكر الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته- دوي مزعج في مصر. فقوة مصر في وحدتها، وفي قوة تمثيل الوفد حينها لهذه الوحدة. فإذا أصاب آصرةَ الوفدِ وَهَنٌ، تسرَّب هذا الوهن من الوفد إلى الأمة، وكان له أثرٌ يغتبطُ له خصوم مصر، ويضر مصر ضرراً بالغاً. ومن قبل بعثت (صحيفة التيمس) وغيرها من الصحف الإنجليزية، مراسلين لها، حاولوا أن يصوروا الحركة القومية المصرية بانها حركة طائفية. وكان رجاء هؤلاء المراسلين أن يُحدِثَ هذا التصوير انقساماً في صفوف الأمة، فلم يتحقق لهم رجاء، وازدادت الحركة بما عُدَّ دساً عليها قوةً على قوة.
أيها الناس.. إنَّ التاريخ يؤكد أن الخير في الاتحاد وأن الشر كل الشر في التشرذم والخصام. احشد جيوشك وتسلح بآخر ما وصلت إليه البشرية من قوة ثم اختلف مع شقيقك وانقسم على نفسك وتناطح مع بني جلدتك تنهزم شر هزيمة وتتفتت عزيمتك وتصبح لقمة سائغة في فم العدو. وحالُ العالم من حولنا – وبخاصة عالمنا العربي- أقوى برهان على ذلك!
ماذا جنى أبناءُ الشعب الواحد من تناحرهم واقتتالهم وإصرار كل فريقٍ منهم على رأيه وإن كان خطأً؟ ماذا كانت نتيجة الانقسام والتشرذم والتحزُّب إلا مزيد مهانة ووهن وخيبة أمل؟ ماذا أفادت الحكومات العربية المنقسمة على نفسها إلا أنها قدمت أرضها ورقاب شعبها للعدو على طبق من ذهب؟
اليوم باتت التهديدات التي تحيط بالمنطقة بأسرها واقعاً ملموساً لا ينكره إلا أحمق أو متحامق! ولا نجاة إلا في وحدة الصف وتماسك القوى والدفاع عن الوطن حتى آخر نَفَس .. “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ” صدق الله العظيم.