جشتالت كلمة معناها التصفح، أو القراءة السريعة. أخشى أن المعاني الحقيقية تغيب بإهمال القراءة المتأملة، الواعية.
بعيدًا عن الكلمات التي تخلو من الدلالة، أو تحمل دلالات مغرضة. نتذكر ما روج له ساسة الغرب من محاولات دمج إسرائيل في الوطن العربي، ودمج المنطقة بالتالي في النظام الرأسمالي الغربي، الذي تتمتع فيه إسرائيل بالمكانة الأقوى.
ثمة من لا يحسن قراءة أفكار الغرب ومخططاته وتصرفاته. إنه يصرف اهتمامنا عن حقيقة ما نعانيه إلى قضايا هامشية لا صلة لها بالمؤامرة التي نعيش في إسارها منذ أواسط القرن التاسع عشر.
ليس في الأمر مبالغة، فقد كانت المنطقة العربية ميراث رجل أوروبا المريض. أفلح الغرب في تمزيق امبراطورية – كانت تعاني بالفعل سلبيات كثيرة – واستولى على أقطار الوطن العربي، ثم قسمها بالتصور الذي يضمن سيادته على مصائرها، من خلال إذكاء عوامل الخلاف والفرقة والنعرات الدينية والمذهبية، وتعميق التجزئة باتفاقات تتغافل حق المواطن العربي في حريته واستقلاله وسيادته على أرضه، وإطلاق الوعود لجماعات من مشردي العالم بدولة في قلب الوطن العربي. ويجد المشردون في الوعد ما يدفعهم إلى إطلاق أشر ما في النفس الإنسانية من عدوانية.
كان وعد بلفور ضغطة الزر لبدء تنفيذ الدولة الصهيونية. تلاه قرار عصبة الأمم بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
وإذا كانت عصبة الأمم قد أكدت في قرارها على مسئولية دولة الانتداب في صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين، وإلزامها بالوفاء بالحقوق السياسية لشعب فلسطين. فقد وصف بن جوريون وعد بلفور، ووثيقة الانتداب البريطاني، بأنهما يظلان قصاصتي ورق ما لم نعمل نحن على استجلاب اليهود إلى فلسطين – كانت تسمية إسرائيل في علم الغيب، وفي وعود الغرب، ومخططات الزعامات اليهودية – وتهيئة الأرض للاستيطان على مجال واسع.
وحسب تعبير بن جوريون فإن كعب أخيل في الائتلاف العربي هو سيادة المسلمين في لبنان، وهي سيادة زائفة – الكلام لبن جوريون – يمكن بسهولة قهرها، ويجب قيام دولة مسيحية هناك، بحيث تكون حدودها الجنوبية على نهر الليطاني، وسنكون على استعداد لتوقيع معاهدة مع هذه الدولة، وبعد هزيمتنا لدولة الأردن، سوف نسقط سوريا، وإذا اجترأت مصر على محاربتنا، فسوف نقصف القاهرة والإسكندرية وبور سعيد، وهكذا ننهي الحرب.
اتجه مناحم بيجين زعيم منظمة أرجون الإرهابية – فيما بعد – لشركائه في مؤامرة الاستيطان: أنتم أيها الإسرائيليون يجب ألّا تأخذكم شفقة أو رحمة عندما تقتلون عدوكم. يجب أن تقضوا عليه حتى ندمر ما يسمى بحضارة العرب التي سوف نشيد على أنقاضها حضارتنا اليهودية.
بالطبع، فإن الكلمات لم تكن هي التعبير الوحيد عن أهداف الحركة التي تزعمها بيجين حتى حصل على حائزة نوبل في السلام(!) لكنه حرص على نشر خريطة تمتد من النيل إلى الفرات، وفوقها بندقية مهيأة للانطلاق، تحتها كلمتان معناهما بالعربية: هكذا فقط!
التجمع الصهيوني ليس مجتمعًا، وإنما هو – في تقدير الراحل عبد الوهاب المسيري – تجمع يتسم بالشذوذ البنيوي غُرس في المنطقة بمساعدة القوة العسكرية الغربية، ومن خلال دعمها الاقتصادي والسياسي والعسكري، ليقوم بدور عسكري لصالح الحضارة الغربية، ومن ثم فهو يشكل تحديًا عسكريًا وحسب، لا تحديًا حضاريًا، بل إنه تحد عسكري جعلنا ننحرف عن الاستجابة للتحدي الحضاري الأصلي الذي طرحته علينا الحضارة الغربية الحديثة.
الاستراتيجية التى قامت عليها إسرائيل هى الدولة الممتدة من النهر إلى البحر، والتكتيك الحالى هو عبرية الأجزاء التى يحتلها اليهود من أرض فلسطين، بحيث تقتصر المواطنة فيها على اليهود. لذلك جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 1975 بأن ” الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصرى”.
إسرائيل كيان غربى، زرع فى المنطقة لا لمجرد أن يبقى، وإنما لكى يتوسع ويفرض السيطرة على المقدرات والمصائر، تسانده دعاوى وحجج، تبدأ بالأساطير، وتنتهى بالمزاعم الباطلة
التطهير العرقى هو المعنى الوحيد لدولة إسرائيل، بداية من دعوة إنشائها، وحتى الدعوة الحالية بجعلها وطنًا للناطقين بالعبرية. وهى دعوة عنصرية تمامًا، تذكرنا بدولة المستوطنين فى جنوب إفريقيا، قبل أن ينتهى نضال الأفارقة – بقيادة العظيم نلسون مانديلا- إلى عودة الأرض إلى أصحابها.
بالإضافة إلى النضال الأسطوري لأبناء غزة، فإن الكثير من أبناء الضفة الغربية والقدس يحتفظون بمفاتيح البيوت التى طردوا منها فى جرائم وحشية، تضع القيادات الصهيونية فى وضع المتكافئ – بامتياز – مع قيادات النازى.
اللافت أن التجمع الصهيوني – وأنقل عن المسيري – لا يعتمد على موارده الطبيعية أو الإنسانية، وإنما يعتمد على الدعم المادي والعسكري والسياسي المستمر والمكثف من العالم الغربي، ولا يمكن تفسير كثير من إنجازات هذا الجيب الاستيطاني إلّا في ضوء المعونات التي تصب فيه باعتباره جيبًا استيطانيًا إحلاليًا أسس ليكون بمثابة قاعدة أمامية للاستعمار الغربي في الوطن العربي.
عمل قادة إسرائيل – منذ إعلان قيام الدولة الصهيونية – بنصيحة بن جوريون، لعبوا على موت الآباء، ونسيان الأجيال التالية، وتحول عروبة فلسطين إلى ماض مندثر. لكن المواطن الفلسطينى – من الأجيال المختلفة – حرص أن يحتفظ بحقه فى العودة إلى أرضه السليبة، وأن يظل مقاومًا لعمليات التدمير والاغتيال والتسفير والمصادرة.
لعلك تلحظ فى كل الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب العربى فى فلسطين، اقتصار دول الغرب على الدعوة إلى ضبط النفس، لا يشغلها أن الفلسطينيين هدف متكرر للاعتداءات الإسرائيلية، وأن أقصى ما تملكه المقاومة هو الصواريخ ذات التأثير المحدود، إن أصابت أو قتلت فإن ضحاياها لاشيء بالقياس إلى الأعداد الهائلة للشهداء الفلسطينيين.
رغم تصريح المتحدث العسكرى الإسرائيلى بأن معظم صواريخ المقاومة يسقط فى الصحراء، ولا يصيب أهدافًا ذات قيمة، فإن دول الغرب تظهر انزعاجها حين تصل هذه الصواريخ إلى تل أبيب والمدن الإسرائيلية الأخرى، بما يعنى أن الخطر جاوز نصيحة ضبط النفس التى تكاد تقصر اتجاهها إلى الجانب الفلسطينى.
تخلت دول الغرب – عقب الاعتداء الإسرائيلى الأخير على غزة – عن نصيحة ضبط النفس التى تطلقها عقب كل اعتداء إسرائيلى، استبدلت بها تدخلًا فعليا لمنع المقاومة من رد الاعتداء ضد شعبها. ليس بمجرد النفوذ السياسي، وإنما بالدعم اللوجستي والعسكري، بل والمشاركة في وضع الخطط وإدارة أنظمة الدفاع الجوي.
نحن في حاجة إلى القراءة المتفهمة لما جرى في الماضي، وما يجري في الآن، واستشرافات المستقبل. التعرف إلى التفصيلات الدقيقة التي تصنع تكوينات، تشكل المشهد الكلي للمأساة التي نحياها منذ غرس الغرب نبتته الغريبة في الأرض العربية.