»»
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات وإطلالات أدباء ومواهب أرض الكنانة..
وتحت عنوان “هَبْ أنّهُ عبَق” تنشر بوابة الجمهورية والمساء عبر هذه السطور التالية إطلالة مبدعة للشاعر أحمد فاروق بيضون في ثياب القصة القصيرة..
🍂
هَبْ أنّهُ عبَق!..
ما بيننا لم يكن لتنفصم عُراه؛ لولا ذاك اليوم المشؤوم الذي زجَّ بها في حصار روبوتٍ مُتحرُّك بأربع عجلات، هي أسيرة ذاك القمقم المعدنيّ والناجي الوحيد من ذاك الخطب الجلل الذي أصاب الجميع في البلدة بالذهول، يالأرزاء وقسوة الأقدار!!.. كانت هي حبُّ حياتي الأول والأخير، فراشة تزهو كالملاك الطائر بين المروج في حبورٍ، لا تدري ماذا تخبئ لها مقصلة القدر ووو… أمي!
لم أكن أصدق ما آلت إليه عوالمي لأسكن عراجين الصمت، أنا الابن الوحيد بالنسبة لأسرتي ميسورة الحال، أمّا عنها فقد تخرجت في كلية الطب ولم يسعفها مصيرها المكتوب أن ترتدي ذاك المعطف لتصحبني في جنتها كطبيب يعاَونها ونرسم معاً بسمة تعلو ثغر المرضى ونرتق الجراح، كنت يتيم الأب مذاك الربيع السادس من العُمر وكنت أكبرها بعامين، كنا كالفرقدان صنوان لا نفترق، هي أيضاً كانت ابنة والديها الراحلين الوحيدة، وأنا أصبحت العكاز التي تستند إليه أمي بين رحايا الأيام ومصائب الحياة، أمي كانت تعلمُ بأمري وما أروم لتحقيقه، بالطبع كنت أبوحُ لها بكل ما يحيك في صدري وكانت تتصنع المرض والتعب لما تدرك بأني سأخرج للنزهة مع رفيقة روحي، إنها الغيرة التي اتقدت في صدر أمي فأحرقتُ جذوة الضمير في عروقها.
لا يمكن أبداً أن اغفل عن أمي الطاعنة في السن وهي تعاني من تبعات الكهولة، لقد كانت دمعتها التي تزرفها أو تحبسها بين محجريها هي ما تطوق أحلامي وآمالي في سياج اللوعة والأسى، أعرف بأن أواصر علاقة رفيقتي مع من وضعتني وتحملت سكرات المخاض. َليست على ما يُرام، أعرف بأن أمي تريدني أن أرضخَ لرغبتها وتزوجني ابنة خالتي التي لا أشعر تجاهها بأية أحاسيس تخالج وجيبي مهما حاولت من حيل لم تنطلي عليّ.
الأمر أصبح محسوما في رباطي المقدس مع من اختارها كياني وعربشت في أوداجي، لم أكن أصدق ما تناهى لأسماعي من فرحة أمي كأنها فقدت صوابها أو تجردت من الإنسانية أو تعوَّدت الانخراط في الأحزان بعد وفاة والدي الذي تعلقت به لدرجة الجنون.. مات وماتت معه كل النبضات في فؤادها المتيم بأناهيد العشاق، لقد صرعني النبأ وأطرقتُ حيناً هائما أسارع الخطى لأراها لا تقوى على الحراك— حبيبتي السرمدية.
حاولت إسعافها وعرضها على كافة الأطباء من الزملاء وقد تجمدت أطرافها السفلية وتصحرت معها أفنان مستقبلي الذي رسمته، غيرُ آبهٍ لتلك المرأة الجلمود التي لن تصير أملوداً أبداً بعدما فقدت توأم روحها، أدرك بأن تلك التي تعيش معي بين أربعة جدران تستعمر وجودي وتملي على دساتيرها وتستن قوانيناً قهرية لتروض رجولتي وترغمني على زيجة غير متكافئة، جلُّ ما يهمني حينذا هو أن أرى توأمي الروحيّ تتحركُ كما كانت، سئمتُ تلك الذكريات المضعضعة التي كنتُ أعيشها في تلك الحارة لما كانت أمي بنبرتها الجهورية تناديني: ” اصعد يا ولد.. لا تلهو مع تلك الفتاة الحمقاء.. إنك تضع رؤوسنا في الحضيض” أو ذاك اليوم الذي أخفى عنها والدي بأني ومن أحب في نفس الكلية، هي الآن جسد مسجي أمامي لا تنبس بكلمة بعد انقضاء أجل والديها، لم يعد سوى عمها الوحيد الذي لم ينجب ليكون مأمنها وملاذها الأخير.
إبانَ تلك الحادثة —حاولت إمساك يدها بقوة لأضمد جراحها وأشعرها بالسكينة والسلام ولكنها حدجتني بتلك النظرة ودمعة تكاد تنفلت من المآقي، همَّت يدها وأبعدتني بعُنف كأنها تقول لي إرحل!! … لمْ أكن أعرف بأنها زمت شفتاها للأبد ولن تنطقها تارةً أخرى.. أحبُّك!.
انصرفت لما أحجمت عني في إعراض وأشاحت بأحداقها في الجهة الأخرى، لما وصل عمها المكلوم.. لم أتفوه بهمس أو همهمة سوى وقع وطء الرحيل، عدتُ أدراجي مستسلماً بعدما أجريت مهاتفات بائسة لأكبر الأطباء للبت في حالتها، وأسررت في قرارة نفسي بأني سأعود إليها لما يهدأ روعها وتستفيق من اضطراب ما بعد الصدمة، أدركُ تماماً كيف يكون فقد عزيز لديك.
هائنذا ماثلٌ أمام جاحظي من احتلت أوطاني وحبستني في عرينها حتى لما بلغت الرشد، هي أمي شئت أم أبيت!… هكذا أنصتُّ لرؤاها وهي تغنجني كما الطفل الرضيع أيا تُرى هل سأعيش في قضبانها حتى يغلبني المشيب مذاك الجنين الذي سيجته في أحشائها؟!!
هززت رأسي وأومأت وأنا في انتشاءة هذيان كأني مخمور تتخبطني الزوايا وأنا أقول لها: “حاضر يا أماه.. أحضري لي قدحا من القهوة السادة” وهي تردد: “ما رأيك في أن أحضرَ شَربات مُحلَّى بسكر فضي؟!”
ثم أغلقتُ باب الغرفة لما انصرفت في زهو كأنها تحمل صولجان النصر وإكليل الغار لأن تلك التي تشاركني حبها قاب قوسين أو أدنى من طي النسيان.
فكرتُ ملياً في محاولة المناص أو إلغاء فكرة الزواج وأعرفُ بأن والدتي ستعاود مناوءتها ومناورتها وتضع في طريقي ابنة اختها الحسناء، أدرك أيضاً بأني لن أخسرَ دناي وآخرتي بإغضابها وأجعلها تطير شططاً، مُدججة جوارحي الآن بالتثبيت والاتئاد حتى ألقاها—من غربت شمسها فجأة مع قريبها بدون أوبة أو التعرف على وجهتها، لكني مؤمنٌ بأني سأجدها صامدة كالطود تتسربلُ مواثيق الحب كما حفرنا اسمينا على تلك السندانة بجوار الجندل.
ريثما تتلاقى الأرواح.. لا يمكن أن أعيش بدون شريك يؤنس عزلتي بعدما رحلت أمي بعد عَقد ونيّف، كانت قريبتي اختياري لأرضي طموح أمي وأعانق سقف مطالبها، كان ما كان وجاءت طفلة جميلة بيننا من جرَّاء تلك العلاقة الشرعية بين زوجين بوكر الزوجية ووكنات عش يحرُسه جارحٌ من البواشق حتى لا تغادر العصافير، لكني غيرت القاعدة قبل أن يهرُم الجارح وتذبُل سطوته وتتحشرج زمجرتها وقررت أن أكون عنقاءً تحلق بجناحاتها خارج البلاد سعيا عن الرزق في بيمارستان مرموق، وفي أرضٍ غير أرضي كان اللقاء التاريخي بين تائه ومُنقذٍ يعيش على أطلال الألبومات، بمحض الصدفة.. يالها من صدفة!.. من أجمل ما رأى جاحظاي.. مازالت كما هي بشعرها الليلكي ومنخارها الصغير محبة اللوز وشفتاها الحمراوان كالياسمين وعيناها النجلاون التي تضاهي المها؛ لم يتغير شكلي سوى ذاك النتوء المترهل فوق خصري، فوجئتُ بأرتال السجائر التي تعفرها وهي في بهو الاستعلامات بذاك المشفى الذي قبلني دكتور للعظام، لم اصدثُ بأنها…. صاحبة ذاك الصرح الهائل وهي من أعطتني تأشيرة الانضمام بعدما أهالت التراب على نثار الصبا، تسامرنا معاً وقد نما لعلمها مشروع الخلايا العصبية الصناعية الطرفية وتبادلنا أطراف الحديث ومُقلتي اليسرى تتسمر على راحة يدها بحثاً عن ذاك الخاتم!… إنه هناك يقبعُ في الخنصَر!..
فباغتها في لغوي:”هل أنتِ مرتبطة؟!”.. كانت ابتسامة ماسخة مغرورقة بدموع الفقد عندما تحدثت عن زوجها ذاك الطبيب المشهور، فقلت لنفسي:” نعم هي تستحق! أنا نذل حذق تخليتُ عنها ولم أفتش في أصقاع الأرض حتى العثور عليها.. أنا خائن!”، تساءلت عمَّا إذا كانت تعرف قدومي هنالك فكان ردها بالإيجاب، هي أرملةٌ قعيدة وثرية وجميلة وراقية وحنونة ومطمعٌ فوق ذلك كله لأي داهية قد يمثل دور المحب، لكن ما أصابها بذاك البريق في عينها لما سمعت باسم ابنتي.. ويْكأنها ترجمت ذاك إلى كهرباء عابثةٍ بخافق الماضي التليد، فاجأتني بروايتها التي لم تُرو بعد اختفائها، علمتُ بأنها سقطة لا تغتفر بإيهامي بأني سأنسى!…
ها هيَ ذا تؤجج نورا انطفأ ووئيد بركان خامل في حشاشي، مكثنا معاً طويلا نسهر على أبحاثنها ولا أكاد أصدق بأنها تتحسس الخطى بثبات وتسير كطفل يبدأ مشيته الأولى وهي تقول: “أحبُّك!”.. أنا لم أسألها عن أبناء أو أنساب أو أي شيء قد يعوق دروبنا نحو البقاء وينبش فيما تبقى في معزوفة خريف قد يتلاشى َيذوب في بهجة الأوقات اللاحقة، تأبطتني بين ذراعيها وأخذت تقبلني كأنها تعوّض ما فات من لوعات؛ أعتقدُ بأنه خزان من سرابات حنين وأوهامُ أضغاث لما تنحنحت امرأة تمسك طفلة وتبصرنا من دبُر وهي ترمقني بسهام نظرات أعادت حدود اللياقة وهي تقول: “أنتظركَ في الأعلى.. أنسيتنا.. عذرا سيدتي!!” لتحدجَ تلك البريئة المعذبة بين براثني بذنب تنوء لحمله الجبال وأنا ألَغمطُ إجاباتي مُغمغاً.. لتستدير ضاحكة وتناغيها :”أنرتم أخيتي.. أنرت الكون قطتي الصغيرة.. زوجك بمثابة أخي وصديقي وهذا العناق الحار لأنه أحيا قدماي بعد الشلل النصفي.. دعونا نحتفل بلم شمل بلدتنا… كمْ اتوقُ لها!.. وسأرسل في طلبِ المؤونة لكما حتى تتنسما قسطا من الراحة على إثر عناء السفر”.. ثم لاحت بالوداع نحوي وهي ترتجف مما تجرعت من حنظل حبٍّ محكوم عليه بالإعدام.. تاركَةً تلك الرائحة التي عتقت المكان حتى خالطت لُعابي لتأسرني.. وأنا منساقٌ وراء زوجةٍ تشبه خالتها وتتعقّبني وهي تقول:” فاض الكيل من هرائك!”…ردَّةُ فعلي هو الرضا بالواقع أتيمم الصبر على أمل لقاء لن يتجدد لما علمتُ بأنها سافرت وتنازلت عن المشفى للأعمال الخيرية كصدقة جارية— لم أبرح ذاك المكان المُعبَّأ بأنفاسها إلى أن نتلاقى في فردوس الخلود كما كنا يمامتين يغردان الحُريَّة.
🍂