» بقلم ✍️أحمد رفاعي آدم (روائي وأديب)
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات أدباء ومواهب أرض الكنانة لننسج خيوط الأمل في ثياب أدبي مبدع ..وننشر في هذه السطور احدث إبداعات الأديب الروائي أحمد رفاعي من خلال قصته ” مدفع الإفطار”، مع سرد العبرة من القصة..
🍂
القصة
(1)
كان أولُ أيام شهر رمضان المبارك، وما أدراك ما شهر رمضان، شهر الرحمة والخير والمحبة والأُنس بالله وبعباده الطيبين، رمضان الحلو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدءات الأسحار وسكنات الليل، حين يَرقُّ الأفق، وتزهر النجوم ويصفو الكون، ويتجلَّى اللهُ على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس، رمضان الأنيس الذي يحلو فيه سمَرُ الخِلَّان ومجالسة الأحباب وزيارة الأصحاب.
عاد الشيخُ “سليم المسوتي” من دَرْسِه قُبيل العصر، كان مرهقاً وسحاباتُ النومِ اللذيذ تحوم فوق رأسه، وقد اجتمع عليه تعبُ الصوم وإرهاقُ العمل وتراخي الأوصال من قلة النوم، لكنه آثر ألا ينام إلا بعد صلاة العصر. في تلك الأثناء لمح ابنته الصغرى فاطمة تقف عند باب المطبخ فناداها فجاءته تمشي والبسمة تُزِّينُ ثغرها الدقيق. قبَّلَها بين عينيها وأجلسها بجواره ثم سألها مداعباً:
– ما طعامنا اليوم؟
ضحكت فاطمة ثم قالت هامسةً كأنها تُسَرِّبُ سراً:
– دجاجٌ وخبزٌ ومَرَق.
وألقتْ ناظريها صوب المطبخ لتتأكد أن أمها لا تزال بداخله ثم عادت تنظر في وجه أبيها وهي تهمس:
– ولقد صنعت أمي حلوى لذيذة!
فزام الشيخ ممازحاً وحرَّك لسانه فوق شفتيه علامة الاشتهاء ثم قال:
– عال عال .. يبدو أننا على موعد مع وليمة لا تُنسى.
فضحك وضحكت، ثم نهضتْ وجرتْ إلى المطبخ لتشاركَ أمها وشقيقتيها مراسم إعداد مأدبة إفطار أول أيام الشهر الفضيل. وأذَّنَ المؤذن لصلاة العصر فقام الشيخ وتوضأ ثم دلف إلى حجرته فصلَّى ثم مكث على سجادة الصلاة يتلو ما شاء الله له من آيات الذكر الحكيم حتى غلبته عيناه فنام في مطرحه كعادته، وكثيراً ما يغلبه النوم فوق سجادة الصلاة فلا يقوى إلا على عباءته الصوف يجذبها من فوق الأريكة الصغيرة ويحبكها حول جسده النحيل ويغرق في نومٍ ناعمٍ هاديء لا يستيقظ منه إلا قبل أذان المغرب بساعة أو أقل. كان الشيخ سليم مغرماً بالبساطة واللين وخِصالِ القلب الرحيم.
(٢)
استيقظ الشيخ “سليم” قبيل أذان المغرب، وقد وُضِعَتْ المائدة انتظاراً للمدفع. جلس الشيخ ومن حوله بناته حبيبات قلبه وزوجته النشيطة. لقد كان يوماً حافلاً بالنسبة لها، لكنها أبداً لم تشتكي بل بدَتْ فخورةً بما أنجزَتْ ومسرورةً بلَمِّ شملِ عائلتها حول المائدة، فأمثال هذه اللحظة هي التي تُجَمِّلُ حياتها وتدخل الفرحة إلى قلبها وتدفعها للمضي قدماً دون كللٍ أو تعب.
وبينما هم على تلك الحال إذ بالباب يطرق، فتعجَّبَ الجميع وتساءلت الزوجة من يكون الطارق، فقال الشيخ سليم وهو ينهض:
– لعله خير إن شاء الله.
وفُتِح الباب فإذا الطارق سائلٌ يبدو البؤس في محياه ونظرة عينيه الكسيرة، ولم يُدهش الشيخ سليم لمرآه فلقد اعتاد أمثال تلك الزيارات فهش له وبش وقال بصدقٍ:
– يا مرحباً .. تفضل يا أخي.
لكن الرجل البائس لم يتحرك. فقط طأطأ رأسه وقال بنبرة حزينة مسَّتْ قلب الشيخ الرحيم:
– عُذراً يا شيخ، أعلمُ أن الوقت غير مناسب، ولكني لم أجد أمامي غيرك، ويعلم الله أنه ما دفعني إليك الساعة إلا حاجة عيالي، أقسمُ أننا بلا طعامٍ منذ يومين ولستُ أجدُ ما أقدمه ليفطروا به، قلبي يتقطع ويدي عاجزة.
كان الرجل يتكلم بحزن بالغ والشيخ ينصتُ بتأثرٍ فرقَّ لحاله وحال صغاره، ولم يتردد في أن يعطيه الطعام كله وسط دهشة بناته وزوجته، وقبل أن تتكلم إحداهن قال بيقين:
– عندنا الحلوى والحمد لله.
فلما رأت ذلك امرأته ولولتْ عليه وصاحتْ وأقسمتْ أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت، حتى أفرغَتْ غضبها. وأذّن المؤذن فجلس الشيخ إلى المائدة وأفطر على الماء والتمر ثم حمد الله وقام إلى حجرته ليصلي، وقبل أن يمضي قال لزوجته وبناته:
– لا تحسَبْنَ أن الذي نعطيه يذهب هدراً. إن الله يُخلِفه في الدنيا قبل الآخرة!
ومضى إلى حجرته وسط حُزن الزوجة وبناتها اللاتي جلَسْنَ كاسفات البال.
(٣)
لم تكن لحظة مدفع الإفطار بروعة كل عام، لقد خرَّبَها ما حدث، على الأقل من وجهة نظر الأم وبناتها، انطفأتْ شعلة الفرحة في قلوب الصبايا وعتَّم على البيت أسًى خجول تبادلته العيون الحزينة دون كلام. وقطع الصمتَ طرقٌ جديدٌ على الباب، فانتبهتْ الأم وقالت ساخرةً:
– قومي يا ابنتي افتحي، لعله سائلٌ آخر جاء ليأخذ طبق الحلوى.
فأضحَكَتْ لهجتُها البنات اللاتي عدَّلْنَ من جلستهن وقد عاودتهُنَّ روح المرح. وجاء الشيخ سليم من حجرته يهرول ليفتح الباب، فطالعته زوجتُه بغيط ولم تنطق. تجاهلها الشيخ ومضى صوب الباب، فلما فتحه رأى ما عقد لسانه وجمّد ناظريه وارتجف له قلبه. يا ألطاف الله. هل ما يراه حقيقةً أم خيالاً؟ مضت برهةٌ والشيخ على حاله حتى غلبَ الفضول زوجته فهتفت:
– ما الأمر يا أبا حليمة؟
فالتفت الشيخ إليها ولا زالت الدهشة تعقد لسانه وأشار لها وللبنات أن يتنَحينْ، فأسرعْنَ بالدخول إلى أقرب حجرة، ثم عاد بوجهه للقادمين وأذِن لهم بالدخول. لقد كان المشهد مهيباً والخدم يعبرون الواحد تلو الآخر وهم يحملون الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة. ولم انتهوا وهموا بالمغادرة تكلم رئيسهم وقال:
– كان “سعيد باشا شموين” قد دعا بعض الكبار فاعتذروا فغضبَ وحلف ألا يأكل من الطعام وأمر بحمله كلّه إلى داركم يا مولانا الشيخ.
ولم يجد الشيخ سليم ما يجيبه به فشكره وأوصاه بإبلاغ أجزل الشكر للباشا. وانصرف القوم فأتت الزوجة وبناتها تجرين والفضول ينهش في قلوبهن على أثر الجلَبة التي أحدثها دخول الخدم وخروجهم، ولما وقعت عيونهن على المائدة التي امتلأت عن آخرها بصحاف وأطباق لا أول لها ولا آخر بُهِتْنَ ووقفن كالمسحورات. وتذكر الشيخ ما كان من ردة فعل زوجته فاقترب منها ثم قال لها برفق وهو يشير إلى الأطباق المملوءة بالطعام:
– أرأيتِ يا امرأة؟
فهزَّت رأسها كالمعتذرة ولم تملكْ أن تمنعَ تحدُّرَ دموعها.-
ـ تمت ـ
🍂
العِبرة
(الحمد لله) عبارةٌ عظيمةٌ تستحقُ أن تخرجَ من قرارة القلب، لإنها في الأصل تتضمن الاعتراف الكامل بفضل الله على جزيل عطائه وتمام نعمته، ولا يكون الاعتراف صادقاً إلا إذا خرج من القلب مغلفاً بالإخلاص ومتزيناً بالنية الصادقة.
وإذا أمْعَنّا النظر في الكيفية المثالية للحمد لوجدناها صورةً حقيقيةً للإحسان، ف(الحمد) ليس كلمة تُقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعمِ أن تفيضَ منها على المحتاج إليها، فحمْدُ الغني أن يعطي الفقراء، وحمْدُ القوي أن يساعد الضعفاء، وحمْدُ الصحيح أن يعاون المرضى، وحمْدُ الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكونُ حامداً لله على هذه النعم، إذا كنتُ أنا وأولادي في شبعٍ ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وٱذا كان جاري لم يسألني، أفلا يجب علي أنا أن أسأل عنه؟
الإحساس نعمة كما يقولون، وأجمل الإحساس أن تحس بغيرك، فتشعرَ بألمه وتحزنَ لحرمانه وتغتمَّ لضيقه واحتياجه، ولكن الإحساس لا يكون صادقاً ما لم يُتَرجمْ إلى أفعال، فما حاجة الفقير ببوستات تُنشر أو بكلمات تُكتب إذا لم تكن صادرةً عن أيدٍ قدَّمَتْ للفقير مبتغاه وسدَّتْ عن المحتاج حاجته، ابحثوا من حولكم فالدنيا ملآنة بالمحتاجين من الأيتام والأرامل والمرضى والضعفاء، ولا تظنوا أن عطاءكم تكرماً أو تفضلاً، بل والله هو الواجب الذي لا يجوز فيه تقصير وهو الحق الذي لا يجوز فيه تقاعس. فالمال مال الله والخير خيره وحده.
وما إحساننا إلا شكراً على إحسان الله علينا، فأحسن كما أحسن الله إليك. ولا تحسبوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان، لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافاً، تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة. وهاكم القصة التي تقدمت تشرح ذلك وتفسره وتؤكده فهي مبنية على قصة واقعية! فلا تبخلوا ولا تترددوا في العطاء فالناس من حولنا في حاجة، واعلموا أن المسألة نسبية، فأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل أسرة وما له إلا أجرته، غني من الأغنياء، وهذا العامل غني بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، وصاحب الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين، فليس في الدنيا فقير وغني فقراً مطلقاً وغنًى مطلقاً.
ألا فاعلموا أيها الأحباب أن في العطاء سعادة عظيمة وفي التصدق منفعة كبيرة، فالصدقة تدفع البلاء ويشفي الله بها المريض، ويمنع الله بها الأذى وهذه أشياء مجربة ووردت فيها الآثار، وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “داووا مرضاكم بالصدقات”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء”.
والخلاصة يا سادة! أنَّ من أحب أن يُسَخِّرَ الله ُله مَنْ هو أقوى منه وأغنى فليُعِنْ من هو أضعف منه وأفقر، وأن يضعَ كلٌّ منا نفسه موضع الآخر، وأن يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبيع بعضكم على بيع بعضٍ وكونوا عباد الله إخوانا”. إن النعم إنما تُحفظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإنَّ الشكرَ لا يكون باللسان وحده ولو أمسك الإنسان سبحة وقال ألف مرة: الحمد لله، وهو يَضِنُّ بماله إن كان غنياً، ويبخل بجاهه إن كان وجيهاً، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان.
فاحمدوا الله على نعمه حمداً فعلياً، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، وتذكروا أنكم الرابحون. فبلادنا بلاد خير وأهلنا أهل كرم، وتكافلنا واجب علينا وواجب تجاه وطننا، وشكرٌ -قبل كل ذلك- لربنا. بسم الله الرحمن الرحيم “ولئن شكرتم لأزيدنكم”. صدق الله العظيم.
🍂