لم تفاجئني الكلمات المحذرة، المتوعدة، التي أطلقها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. قائمة تصرفات الرئيس السابق، والمستقبلي، وأقواله، تفسر العقلية التي تصدر أحكامه.
من القائمة رفض ترامب نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة، ودعوة مؤيديه إلى اقتحام مبنى الكونجرس إظهارًا للرفض، تباهيه بأنه يحمي بعض الزعامات العربية في تنقلاتهم، اتهامه الأفارقة بأنهم يقضون حاجتهم في الخلاء، ما لا حصر له من الكلمات والتصرفات الغريبة التي تيسر فهم الشخصية الترامبية!
لكي أقرب الصورة فإن كلمات ترامب المحملة بالوعيد الذي سيشمل منطقة الشرق الأوسط – على حد تعبيره – جاءت في ما يشبه المفاجأة، بعد استقباله زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، شكت إليه أحوال الأسرى الإسرائيليين في قبضة حماس، من تبقى من الأسرى بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي – باعترافه – جنوده الأسرى. أثارت توسلات السيدة نتنياهو شرايين الغضب في رأس ترامب، فأعلن توعده بالعقاب القاسي للشرق الأوسط جميعًا. لم تفرج حماس عن الناجين من عمليات القتل التي ارتكبت بأيد صديقة، جنود من زملائهم أرادوا إنقاذهم فقتلوهم!
نسي ترامب – أو تناسى – في غضبته أن إسرائيل فقدت برصاص جنودها عشرات الإسرائيليين، بينما استشهد وأصيب من الفلسطينيين ما يزيد عن 150 ألفًا، بالإضافة إلى محو نحو 80% من مساحة غزة من الخريطة.
من الصعب تصور أن الأرقام تغيب عن زعيم سياسي كان رئيسًا لبلاده، التي توصف بأنها الدولة الأهم في العالم، ويعد نفسه لتولي رئاسة تالية، ومنها أعداد الشهداء والمصابين الفلسطينيين، والمذابح والمحو لكل ما هو فلسطيني.
يزول العجب إذا انتبهنا إلى أن المجازر الفلسطينية ليست بواسطة الجيش الإسرائيلي في غزة فحسب، وإنما بواسطة عصابات المستوطنين في الضفة الغربية، يساندها بن جفير وساعر وسيموتريتش وغيرهم من قيادات الكيان الصهيوني,
كما تعلم، فإن المخططات الصهيونية تسعى إلى الحرب الشاملة، بهدف تحقيق حلم التوسع الصهيوني.
قضية الأسرى الإسرائيليين لا تعدو ذريعة للاحتلال الصهيوني في محاولة تحقيق حلم الدولة العبرية من النيل إلى الفرات، توطئة لمزيد من التوسع نحو حلم من المحيط إلى المحيط، ولا أخمن، فهذه هي الاستراتيجية التي ترافقت مع الهجوم الوحشي على غزة ولبنان.
التحالف الصهيوني الأمريكي خطوة تالية لوعد بلفور الذي منح فيه وزير الخارجية البريطاني ما لا يملكه إلى من لا يستحق. وصدر الوعد في الوقت الذي هزمت فيه دولة الخلافة العثمانية، واحتلت القوات البريطانية أرض فلسطين.
المساندة الأمريكية تلح في إظهار وجودها بمجرد اقتراب الخطر من الحليف الصهيوني، حتى لو أن ذلك الخطر صنعته االعدوانية الإسرائيلية، من خلال ممارساتها التي لم تتبدل منذ مذبحة دير ياسين، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل، حتى الآن. فالقيادة السياسية الأمريكية تعلن دعمها الكامل للكيان الصهيوني، بل إنها قد تعيب عليه تحركات تفتقد التبرير، لكنها تفصل – دومًا – بين الملاحظات السلبية والدعم المطلق.
ولعلي أذكر بقول المسئول الإعلامي الأمريكي ” كيربي” إن كل ما فعلته، وتفعله، إسرائيل هو أفعال شرعية. وكان تعليق رئيس مجلس النواب الأرميكي على واقعة استشهاد البطل” السنوار”: العدالة تحققت!. حتى تصريحات الإدانة تترافق مع الدعم المسلح، بداية بدفع حاملات الطائرات إلى مياه المنطقة، وحتى فتح مخازن السلاح بأحدث المعدات والذخائر، وقد يضاف إلى ذلك كله مشاركة فعلية، أبرزها مشاركة القيادات العسكرية الأمريكية في إدارة المعارك. وقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن الهجوم على بعض المواقع في المنطقة نفذ بالاتفاق مع القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط.
المعنى الذي تقفز به واشنطن فوق كل الاعتبارات أن حماية إسرائيل مسئولية أمريكية. ومن مسئولياتها لملمة المتناثر من التحركات والتصريحات الإسرائيلية، تستفز مشاعر حتى زعامات الدول التي تحالفها، بل إن التلاحم الأمريكي الصهيوني بلغ حد إعلان ترامب أن مساحة إسرائيل الحالية صغيرة، وأنه يجب توسعتها!
في المقابل، فإن العرب بلا مشروع، بلا استراتيجية. إنهم يمتنعون عن المبادأة، ويفضلون ردود الأفعال. والأفعال – كما ترى – مدمرة وبشعة، ربما أزالت الغارة الوحيدة خارطة سكانية كاملة من الوجود، بدعوى قصف بنايات كانت تخفي المقاومين، وتأتي ردود الأفعال في عشرات الصواريخ، التي يحزنني وصفها، فهذه هي القدرات، بأنها عيدان كبيريت قياسًا إلى أسلحة الدمار الإسرائيلية. الطائرات الإسرائيلية تقتل البشر، وتهدم البيوت، وتزيل مظاهر الحياة، بأطنان من الصواريخ والقنابل. أما الصواريخ العربية، وقنابل الطائرات المسيرة، فإني أترك لك تسميتها من واقع التأثيرات التي تحدثها، والتي لا تتجاوز حفرًا في الأرض، أو حرائق محدودة، وربما إصابات بشرية طفيفة.
المطالب الأمريكية بالنسبة للشعب الفلسطيني في غزة، تتحدد في عاملين، أولهما قتل أعداد أقل من المدنيين – هذا هو نص بيانات البيت الأبيض – والعامل الثاني زيادة المساعدات لأبناء القطاع. لا حرية، ولا وطن ينتمون إليه، بل مذابح متكررة، تقتصر المواقف الأمريكية إزاءها على تقليل أعداد الضحايا، وتزويدهم بمساعدات من الطعام والدواء، انعكاسًا للنظرة الصهيونية بأنهم ليسوا من فصيلة البشر!
تبقى ملاحظة: لقد توجه ترامب بوعيده إلى الشرق الأوسط. لم يحدد بلدًا ما، فهو يتوجه إلى منطقة زرع في أرضها نبت غريب، وفشلت كل المحاولات – منذ عشرات العقود – في إتاحة العيش له على حساب أصحاب الأرض!
هل يعي ترامب المعني؟!